السبت، 17 يوليو 2010

ذكرى بلال (3)

وتصارح كوكه "عربيها"، متسائلة بجرأة المكلوم، وفصاحة الحزن العاري .. لم كذبت علي ؟
فلايرقّ لألمها، ولا يبصر دمعاتها المتلاحقة كحبات سبحة من العقيق، وإنما يغضب لجرأتها عليه، فيلبسها أردية حمراء من آثار السياط، ويشنّف مسامعها بحلي من السباب الخبيث.
وتمر أيام وليال .. وكوكه لاتطيق النظر إلى وجه سيدها، بائع الأطفال، وتجد الفرصة سانحة عندما يزور سيّدها الأول ابنته التي رحلت بكوكه قبل سنوات، فتتعلق به الأمة الثكلى، ترجو أن تعود إلى ملكه القديم، وتناشده .. فيرقّ لها قلب السيد الأول، ويشتريها على مضض، لتعيش معه في حيّه، غير بعيد من "مخيّم المأساة" الذي كانت فيه.

سنوات .. يغادر فيها السيد الأول عالم البشر، وتعيش كوكه مع بنات سيّدها، أختا لهم، يرعين شأنها، ولا يكلّفنها من العمل إلا ما تطيق.


وتمضي الأيام وجرح بلال عصي على الإندمال .. غير أن سلطان الأيام أسرع إلى مسح الدمع، وإطفاء جمرة الحزن، ويمضي الزمن سريعا يراكم عشرات السنين، ويأتي رسول القبر، فيخطف أبا بلال، وتبقى "كوكه"’ صامدة .. كأنما نحتت من حجارة وحديد، وإن ملأت حزنا لاينقضي، ودمعا لايغيض، فكأنه والدمع .. جريان الماء الزلال من عيون الصخر الأصم.

وتتوالى السنين، وتضعف "كوكه" عن الحركة، حتى ما تستطيع الصلاة إلا جالسة، وتخفت شعلة البصر الحديد، حتى ما تميّز قسمات الأهل المساكنين، وتوقر الأيام السمع، حتى يحتاج إلى ترجمان.
ثم تلحّ عليها حمى عارضة، فيراها الطبيب ولا يأمر لها بدواء كبير، ثم يسرّ إلى كبير أبناء أختها أن شمسها تستعد للغروب ..
وهنا تعود ذكرى بلال تلحّ كأجنحة الحلم .. تلوح كلمع البارق المتوثّب، وأسراب الذكريات .. تقتات من بقية الروح التي تتردّد في جسم صهرته الأيام والنكبات.
ويجتمع الأهل، يحبسون مجاري الدمع، ويغالبون غصص الألم العنيد ..
وتتحسّس "كوكه" أيدي العوّاد، وتغمغم بحروف مثقلة .. بلال .. هل جاء بلال .. ؟؟ ثم تدلف إلى سكرة طويلة حتى يردد المتسرّعون ورقاق القلوب "إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد غادرت عالمنا" .. ثم تفيق، فتردد بحروفها الجريحة "أريد بلال" ..
ولم تزل كذلك حتى خرجت الروح من الجسد، وتوقّف عدّاد الأيام عن الدوران، عند تسعين أو تزيد من السنين والأعوام.
وحمل الناس الجسد الضئيل إلى مثواه، بعد أن غسّلوه من أدران الدنيا، ولفّوه في غلالة بيضاء، ثم ردّوا عليها طرفا من رداء منسوج من الرمل، ووقف كهل من أبناء اخوتها يردد بصبر جريح "اذكري ما خرجت به من هذه الدنيا من أنك تشهدين أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وعاد الناس إلى أهليهم، فتبادلوا التعازي والكلمات الكبيرة، ثم عادت مياه الحياة إلى مجاريها ..

أما أنا .. فلا يزال "سؤال أين بلال ؟ يرن في أذني صداه اللاهب، لأردد أين بلال ؟ وأين بلال الآن ؟
إن يكن حيا .. فكيف لشيخ يخطو في الرابعة والسبعين من عمره أن يجيب على هذا السؤال الحزين ؟! وإن تكن غالته الأيام، وغادرت به عالم الغبن والظلم الأرضي، فليس أول طفل بخلت عليه عدالة السادة والكبراء بحضن أمه وأبيه.
لكن سؤالي الكبير .. كم من بلال .. وأم بلال .. يعيشون بين ظهرانينا، وهم يحملون ذات الألم النبيل، الذي حملته "كوكه" أكثر من سبعين سنة ؟؟


برأيي المتواضع فليس بلال إلا صورة واحدة من مجلّد الصور المأساوية، التي تملأ جهازنا الإجتماعي الرديئ.

السراج + المذرذرة اليوم

mederdratoday@gmail.com
Tel 2240979

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

لقد قرأت هذه القصة وأحسست أن كاتبها يريد أن ينفخ شيء من السم في هذا المجتمع
ولأكون واقعيا أسأله هل هذه المعاناة التي تحدث عنها تحدث في زمننا هذا ؟ أم هو زمن ولي ولن يعود؟
وفي الختام أدعوك للتريث فيما تريد كتابته فلا اللغة الجزلة كافية وحدها بل موضوع الكتابة أهم بكثير من اللغة
وشكرا
أخوكم : محمد نور الشنقيطي

غير معرف يقول...

اسلمكم اتحستون ابذ اروايه ال ما عندن الوقت نكراوها فيه جيبون أخبار أهلن و دشرتن ال ما توف،