محمد ولد حمدو يكتب للمذرذرة اليوم
عن مدرسة المذرذرة والزمن الجميل
لا زلت أذكر يومي الأول في تلك المدرسة، فقد سلّمني من أتى معي من "الخلطة"، إلى المدير الفاضل المربي محمد ولد بوهم، ذكره الله بألف خير، والذي أحالني إلى الفصل الأول، وكان في تلك الأيام يقع بالناحية الشمالية الشرقية.
وهناك وجدت أمامي المدرّس الفاضل أحمدو ولد مختار، أطال الله عمره.
كانت تلك بداية لها ما بعدها، فقد أخذ المعلم، وكالعادة في بداية العام الدراسي السجل، وبدأ النداء بأسماء الحاضرين، ليطلب بعدها ممن لم يسمع إسمه أن يخرج من الفصل، وكنت ربما الوحيد الذي لم يسمع إسمه .. أو على الأصح لم أسمع الإسم الذي إعتدت عليه في البيت، فقد كان إسمى المدوّن في السجل مختلفا عن الذي كنت أعرفه .. وكان علي أن أخرج وأنا أجرّ أذيال الخيبة، محروما من المدرسة في أول تجربة معها.
كانت تلك مجرد بداية لمشوار إمتد ست سنوات بين حيطان تلك المدرسة العريقة .. تلك المدرسة التي هي واحدة من أقدم المدارس في البلد، حيث أسست عام ألف وتسعمائة وعشرة .. كما درّسنا بعد ذلك المدرّس المتميز الهادئ محمد ولد صمب الفلاني في أحد دروس التاريخ التي بقيت راسخة في ذهني.
وحتى وإن طال الإهمال اليوم هذه المدرسة، فما زالت ساحتها الواسعة وبعض أطلال فصولها العتيقة شاهدا على زمن جميل كانت فيه المذرذرة رقما مهما في المعادلة الوطنية.
أجدني لا أعرف من أين أبدا، مشدودا للعودة لكل التفاصيل .. لتلك الشجرة التي تتوسط الساحة تحمل بحنان جرسا دائريا كبيرا كان يدوي إيذانا ببداية الحصة أو نهايتها.
كانت هذه المدرسة في سنوات طفولتي الباكرة عالما خاصا بكل ما للكلمة من معنى .. فقد كانت سلطة مديرها المهاب محمد ولد بوهم كافية لإشعارنا جميعا بأننا حين نصلها قد دخلنا حرما له طقوس محسوبة.
كنا نصل مبكّرين سواء في الصباح أو بعد الظهيرة، وكان هو في الحالتين يسبقنا بنحو ربع الساعة، وكنا نتسقّط دقائق تصرّفاته، وكان لديه في الركن الشمالي الغربي من ساحة المدرسة مايشبه الشقة الصغيرة، فيها حمام وغرفة إستراحة.
وكان من عادته الثابتة تقريبا أن يصل هذه الشقة باكرا، ثم يتوجه منها إلى مكتبه قبل موعد الحصة الصباحية بدقائق .. وغير بعيد من المكتب، كنا نحن نتجمع في إنتظار جرس الدخول، وهي عملية كنا نحرص جميعا على أن تتم في هدوء، وإلا فالويل لنا من الغرفة المجاورة لمكتب ولد بوهم.
وكانت رائحة "مسكه" المعروفة، والتي كنا نتنافس في تنسّمها، كافية لكي تجعلنا نخلد للهدوء وكأن على رؤوسنا الطير .. وطيلة ساعات الدرس كنا نتهيّب رفع الصوت إتّقاءا "لطلعاته" الإستكشافية التي كثيرا ما ساقت بعضا من سيّئي الحظ إلى الغرفة المجاورة للمكتب .. وكل من مرّ بالمدرسة في تلك السنوات يعرف ما تعنيه تلك الغرفة .. فقد كان النزيل يقضي هناك أوقاتا تطول أو تقصر مكبا على وجهه نحو جدار الغرفة قبل أن تنتهي حصة العقاب بصفعات متتالية، أو ضربات بسوط ولد بوهم الأسطوري .. كلمات تأنيب تنهال على الآذان كما تتالى الضربات على الظهر.
الغريب أن الرجل كان يظهر حرصا زائدا على مصالحنا حتى وإن إقتضى ذلك الإفراط في القسوة علينا .. والأغرب أنه لم يكن يخاف من غضب ذوينا كما يحدث هذه الايام .. والأكثر غرابة - وهذه الأهم- أن الأهالي كانوا يثقون في صدق نيته بل ويحثونه على القسوة معنا أكثر .. بل أنهم يهددونا بإبلاغه عن سلوكنا في البيت حين لا يكون سائرا في الإتجاه الذي يرضيهم، وما أكثر ما يحدث ذلك.
وكانت هذه المدرسة -المنارة- تضم إلى جانب مديرها كوكبة من المربّين المتميّزين المخلصين، وكانوا على الأغلب ينظرون إلينا على أننا بمنزلة أبنائهم .. فقد كان كل من في المدينة الصغيرة يعرفون بعضهم.
ولعله كان من أكثر الأوقات وقارا وإحتراما في المدرسة، وقت صلاة العصر، التي كانت الصلاة الوحيدة التي تحلّ علينا ونحن في المدرسة، وكان ولد بوهم يحضرها بنفسه، ويؤمّها أسنّ المعلمين في الغالب.
والطريف أن المعلّمين كانوا يجدون صعوبة في ضبط الأمور في الايام التي يتغيب فيها ولد بوهم عن هذه الصلاة.
ومن اللحظات التي لاتنسى كذلك "راحة العاشرة" وكانت تستغرق عشر دقائق نبدأها عادة بالإنتظام في صف طويل أمام الحنفية التي تتوسّط المدرسة، حيث نشرب تباعا في هرج ومرج، يتعمّد ولد بوهم التغاضي عنه في أغلب الاحيان .. بعد ذلك نذهب لشراء بعض المواد التي كانت متاحة .. تعرضها نسوة خارج سور المدرسة .. فلم يكن يجرؤن على الدخول .. فبسبب حرص ولد بوهم على سمعة المؤسسة، لم يكن يسمح بدخول الطعام إليها تحت أي طائل .. وكنا نتنافس في شيطنة ظاهرة، في إقتناء ما تسمح به "ميزانياتنا" المحدودة جدا من خبز وبسكويت وفطائر، قبل أن نعود مسرعين إلى الفصل مع دقات الجرس التي تتالى بإيقاع محسوب تعوّدنا عليه مع الايام .. هاجسنا أن ندخل قبل أن يخرج ولد بوهم في جولته التفقّدية بعد "الراحة" .. ورغم هذا الإنضباط فقد كان البعض يتخلّفون عن الفصل، خاصة المشاغبون الذين كانوا يستغلون فترة الإستراحة في رياضات وألعاب تبدأ بركوب الحمير التي يتركها أصحابها من زوار المدينة تحت الأشجار المتناثرة شرق المدرسة، وتنتهي هذه الألعاب والرياضات بنصب "الشرك" لصيد الحمام في أكناف المقبرة التي تتراءى أطرافها الشمالية من محيط المدرسة "ناعتينها للواعدينها".
ولعلّي لايمكن أن أنسى أحد أفراد هذه الشلّة التي كانت متخصّصة في نصب الشراك واللعب قرب المقبرة، فقد فارقنا مبكرا في أحد الأيام الباردة من عام 1980 وإنتقل إلى رحمة الله بعد جولة لعب في المقبرة مع بعض الاصدقاء .. وترسّخ في مخيّلاتنا الصغيرة "الجبانة" حينها، أن سكان المقابر الذين إنزعجوا من سلوكه قد إختطفوه .. أو هكذا تداولنا قصته حينها على ما أذكر، وبقيّت راسخة في ذاكرتي إلى اليوم.
ولعل آخرين من رفاق تلك السنوات الغابرة، يملكون طبعة مشابهة للقصة .. من المواسم المهمة في المدرسة، كعيد الإستقلال وتحضيراته التي كانت تبدأ قبله بأسبوعين، نجري خلالهما تدريبا على النشيد، وتشكيل فرقة تؤدّيه في اليوم السعيد، ويتم إختيار أفرادها على أساس طراوة الصوت ورخامته، ولذلك لم يكن طبعا من حظّي أن أكون يوما ضمن هذه الفرقة .. كما كانت المدرسة تستعدّ لإستقبال الضيوف الكبار الذين يزورون المدينة، من رؤساء ووزراء وولاة ومسؤولين أجانب .. ولم نكن نهتم كثيرا بمن يكون الضيف، بل كان إهتمامنا أكثر بتلك الإحتفالات التي تقام له، والتي كنا نشارك فيها ببراءة الأطفال، وكنا أسعد مانكون بذلك اليوم الذي نقضيه خارج المدرسة مع باقي سكان المدينة في الاحتفالات.
أما اللحظات المزعجة في الفصل بالنسبة لي فكانت حصص الحساب المقلقة دائما، فقد كنت -وربما لا زلت- أجد صعوبة في إنجاز أبسط العمليات الحسابية الأربع كما كنا نسميها، خلافا لحصص العربية والفرنسية والتاريخ .. التي كنت أحسّ بإرتياح كبير خلالها.
وكانت هواجس حضور المفتّش وزياراته المفاجئة والمرعبة ترافقنا، وكنا نحسبه من كوكب آخر، حتى أني كنت أحسد صديقة معنا في الفصل على أن والدها يعمل سائقا للمفتش، بل إنني في أعماقي أشك في إمكانية أن يكون والدها يعرف المفتش أصلا أو أن يقترب من مقامه السامي.
ومن الأمور التي كانت تشعرنا بالخوف، حملات التلقيح ضد الأمراض، أو "الدّكّة"، حتى أننا كنا عندما نرى سيارة إقتربت من الحرم المدرسي، نظنّها جاءت بطاقم التلقيح .. فترى التلاميذ، خاصة الأحدث سنا يخرجون من الفصول، ويلوذون بالفرار، في حالة هستيرية حقيقة، غير عابئين "بسلطة" ولد بوهم.
وكانت لنا طقوس في التعامل مع المعلمين، فحين نتمنّى أن لاياتي المعلم للحصة -وما أكثر ذلك- كنا نضع الأحذية في وضع معكوس في أقدامنا، بحيث يكون الحذاء الايمن في القدم اليسرى والعكس بالعكس، وكنا نحسب أن ذلك يكفي للحيلولة دون مجيئ المدرس.
وكنا عموما أكثر جسارة في محاولة إستمالة عواطف معلمّي العربية، وخلاف ذلك كان معلمّوا الفرنسية أكثر قسوة من نظرائهم مدرّسي العربية.
ومن يوميات المدرسة "دفتر الطب" وفيه نسجّل أسماءنا للإستشفاء بالمستوصف الوحيد في المدينة .. وكانت تلك من أجمل اللحظات .. لأننا نحظى بمعاملة جيدة لدى الأطباء .. كما كنا في الغالب نحصل على عطلة يوم أويومين، بناءا على توصية الطبيب.
ومن تفاصيل الحياة المدرسية التي لاتنسى، فرق الكناسة، ويتوزع عليها التلاميذ لتنظيف المدرسة، ولم تكن نوبات عملها تخلو من طرائف ومشاكسات .. لعل رفاق تلك السنوات لايزالون يذكرون بعضها ..
وإلى جانب المعلم، كان لرئيس القسم سلطة لها مكانتها، فهو صلة الوصل بين التلميذ في الفصل والإدارة .. يجلب دفتر الحضور والأدوات التربوية التي يستخدمها المعلّم في الدورس .. وغيرها من ضرورات العملية كالطباشير والمساطر. وبعد إنتهاء الحصّة يعيدها إلى مكتب المدير .. وينوب المعلّم -وهذه الأهم والأخطر- ينوبه في "غيباته الصغرى"، ويدير القسم في غيابه، حيث يسجّل أسماء "المشاغبين" ويسلّمها للمعلم، وهي سلطة كانت تمنحه فرصة تصفية حسابته الصغيرة مع البعض، وربما تجاسر فطلب ضريبة مقابل مظلّة حماية يوفّرها لبعض التلاميذ في الفصل.
محمد ولد حمدو
طهران - إيران
mederdratoday@gmail.com