يكتب عن الشعر الحساني
بين واقع الإمتهان ومحاولات الإتقان
(2)
عن عميد الأدب الحساني..
في الحلقة الثانية من الدراسة التي أعدها الباحث والأديب محمد ولد أحمد ولد الميداح عن الأدب الحساني، يتوقف الرجل بإسهاب عند التجربة الرائعة والمميزة لعميد الأدب الحساني، الأستاذ المرحوم محمدن ولد سيد إبراهيم، كما يتطرق ولد الميداح إلى ما جرّه تطفل عدد من الباحثين على هذا الأدب، ودورهم في الإضرار بهذا الفن، كما يتناول الباحث التعريف بهذا الفن، ويقف عند ملامح عطائه في هذا المجال، ما بين 1973 إلى العام 2007.
ولا بد أن نقف هنا وقفة إجلال و تقدير و ترحم على روح فقيد الأدب الحساني و عميده، المغفور له محمدن ولد سيد إبراهيم، الذي قاوم ورابط من أجل حفظ الموجود و طلب المفقود، والذي لولا ما أبلاه من بلاء حسن لكانت نفائس من أمهات "لبتيت" قد تلاشت إلي الأبد .. كما نلاحظ أن البرامج الإذاعية التي تعنى بالأدب، تشهد تحسنا الآن ملحوظا، مصدره تفتّح القائمين عليها، و بحثهم المستميت عن الثقافة التي تجمع، لا عن تلك التي تفرق ..
ولا يفوتنا في نفس السياق أن نذكر أن الساحة الشعرية اليوم، تعجّ بالمبدعين الأكفاء، و تشهد تحولا إيجابيا، تحدوه رغبة حقيقية في الرجوع إلى التراث الثقافي الأصيل .. و لا يمكن أن نحصر أولئك المبدعين المتميزين في سن معينة، أو في منطقة محددة، من مناطق الوطن ..
وخلاصة القول، أن الشعر الحساني مهدد من طرف المتطفلين عليه، وبعض الباحثين المفتقـرين لأدوات البحث وآدابه، أكثر من تهديده من طرف ندرة الشعراء أنفسهم، وتراجع مستوى إنتاجهم .. ولن يكون الشعر في مأمن من الإبتذال الذي يترصده، إلا إذا تبنّته هيئة رسمية قادرة ومصمّمة على وضع خطة تهدف إلى حراسته ضد الأدعياء والمتشاعرين وبعض "كبار المثقفين" الذيـن يحرّفونه حسب هوى الجهة التي "يتعاملون" معها.
وقد أردت أن أجعل من هذه الصرخة المدوية، والتي لا تخلو من بعض الإطناب، مدخلا لمجموعة ذكريات مختلفة، وأشعار مبعثرة، كتبتها خلال العقود الثلاثة الماضية ( أي ما بين 1973 و 2007) و تتناول بعض الأغراض دون غيرها.
التعريف بهذا الجنس الأدبي..
يعرف الشعر الحساني بتسميات عديدة، لكل واحدة منها مدلولها الخاص، ومنها:
لغن: و معناه الغناء بالفصحى
الموزون
الشعر الشعبي
الشعر اللهجي
وسنتناولها في ما يلي بشيئ من التفصيل:
لغن: هذه هي التسمية القديمة، ويري البعض أن لها علاقة بالغناء الذي تمارسه إحدى الفئات الشعبية، ولا شك أن الشعر الحساني لصيق بالغناء، وأن القدماء كانوا يفصلون بهذه التسمية بينه وبين الشعر العربي الفصيح، الأكثر منه نخبوية، والذي كانت تمارسه فئات تبتعد شيئا ما عن الطرب و الغناء، تحت ضغط ضرورة الحماية الروحية ضد القوة المسلحة.
وإنطلاقا من ذلك، فإننا نرجّح أن يكون "لغن" بدأ تعاطيه في المجتمعات الأكثر إحتكاكا مع فئات المغنين -أي إيكاون- ويتعلق الأمر هنا بالمجتمعات الحسّانية، التي تخلّت في وقت ما عن اللسان العربي الأصيل، وأصبحت تتحدث بالدارجة، تاركة الشعر الفصيح للمجموعات التي كانت تتعاطى البربرية كلغة للتواصل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النظرية لا يمكن تعميمها على الإطلاق، لأن "لغن" كان يتعاطى في مختلف المجتمعات البيظانية، وإن كانت أكثرية النصوص القديمة من إنتاج مجموعة معينة، هي مجموعة بني حسان.
الموزون: تطلق هذه التسمية على كل كلام مقفّى، وبذلك يستوي فيها الشعر الفصيح، و الشعر الحساني، و هي تفرّق أساسا بين الشعر والنثر، و لعل ذلك ما حدا بها إلى أن أصبحت في المفهوم العام دالّة على السبك اللغوي، وجودة إختيار الكلمة المناسبة، ووضعها في المكان المناسب، بغض النظر عن المستوى الأدبي للنص.
الشعر الشعبي: مع بداية نمو الفكر القومي العربي، وكردة فعل على الرفض الذي قابل به إخواننا العرب ميلاد الدولة الموريتانية، بدأ بعض الشباب الموريتانيين يتعاملون مع الشعر الحساني، ومع كل ما هو "بيظاني" أصيل، بقدر من الإمتهان، ويرون في الإهتمام بتلك الخصوصيات، سببا لعزلة البلاد عن الركب الثقافي في الأمة العربية ..
وبلغ ببعضهم الحرص على عدم التميّز عن باقي الشعوب العربية، حدودا غريبة جعلتهم يشـنّون الحرب على الدرّاعة وعلى كلمة "ولد" المميزة "للبيظان"، وعلى العادات الغذائية، ويحرصون على أن يستبدلوا هذه العبارات ببدائل، من مفردات تستخدم في الشرق الأوسط، أو في الخليج العربي.
و شرعوا في تعريب بعض الأسماء، مثل "نواكشوط"، التي تحوّلت إلى "نوق الشط" .. و حتى بعض الأسماء التي لا علاقة لها بالعربية، كآبدجانه (Abidjan) مثلا، أصبحت على ألسنة بعضهم يشار إليها ب "أبو دجانة".
وقد سبق هذه المحاولات الإستنساخية، ما عمل عليه المستعمر الفرنسي، من محاولة طمس الهوية الموريتانية بكل الوسائل، وهي المهمة التي أوكلها إبّان رحيله إلى الطبقة المثقّفة آنذاك، أي "المتفرنسين" الذين قاموا "بواجبهم" على أكمل وجه، وأبدعوا في إبتذال كل ما هو "شعبي" و"عربي" على حد سواء، وفي جو كهذا، وجد الشعر الحسّاني نفسه في دائرة ضيقة، ومجال ثقافي لا مكان له فيه، إلا إذا رضي بالدونية، وقبل وصفه "بالشعبية" التي لا يحسد عليها.
الشعر اللهجي: يطلق الباحثون هذه التسمية على شعر "البيظان"، و هي تسمية أكثر إنصافا من غيرها، لأنها تنسب هذا الشعر إلى اللهجة الحسّانية، دون أن تطلق عليه حكما، أو تضعه في خانة يستشفّ منها عدم تبنّيه بكل فخر وإعتزاز.
البحور الشعرية أو "لَبْتُوتَ"
ليس الهدف عندنا من هذا البحث، سرد البحور الشعرية، و تقديم قواعدها العروضية، لأن ذلك العناء قد سبقنا لتجشّمه باحثون أكفاء .. وعلى كل من أراد التعمّق في قضايا "لغن" الفنية، أن يعتمد على ما توصلوا إليه من نتائج هامة.
لقد إرتأينا أن نقتصر على إيراد بعض الملاحظات الشخصية، لإنارة الدارسين ومساعدتهم على حسن إختيار المراجع المناسبة، لأن بعض المعلومات التي أصبحت اليوم في متناول الجميع، تفتقــر كثيرا إلى الموضوعية، وتركز على شكليات لا تفيد المتلقّين، بل تصدّهم عن الهدف المنشود.
إن اهتمام كثير من الشعراء و المتشاعرين، والذين نصّبوا أنفسهم للتدريس، وسخّرت لهم كل وسائل التبليغ، يكاد يكون منصبّا على سرد "لبتوتَ" أي بحور الشعر اللهجي، دون أن يساعد ذلك المتلقّي في إكتساب الموهبة الشعرية التي هو بحاجة إليها .. ولا تفيده إلا بشحن رأسه بمسمّيات جافة، و غالبا ما تكون من خيال مقدّمها.
إن غالبية البحور الشعرية التي تتداولُ أسماؤها في الأوساط "الأدبية"، ما هي إلا بحور نظرية، نادرة الإستعمال أو منقرضة منذ أمد بعيد، ولا يمكن لمروّجيها أن يقدّموا للمتلقي أكثر من نموذج أو إثنين منها.
فما الفائدة من شحن أذهان الدارسين بأسماء بحور لا يمكنهم طول حياتهم أن يسمعوا منها إلا قطعة أو قطعتين، مثل "المشكل و الرمز و بت أثلات و اللام بوكر والواكدي الزاحل" إلخ ..؟
حديث عن بعض المشاكل..
إن المعضلة الكبرى تكمن في حرص بعض الكتّاب والباحثين ومقدّمي الإرشادات، على إظهار تمكّنهم من الموضوع، من خلال تقديم ما عندهم على أساس أنه حقائق لا تقبل النقاش، و لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
و في مواجهة هذه الوضعية، فإنني أنصح معدّي الرسائل الجامعية، وغيرهم ممن لا يريدون الإنجراف وراء الترّهات، أن يتحرّوا الدقة في ما يقرؤونه، و ما يسمعونه وأن لا يصدّقوا تلقائيا كل ما رأوه مكتوبا بحروف براقة على صفحات كتاب أنيق .. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن القائلين بشاعرية "بت الرمز" مثلا، لا يدركون أنهم يتلاعبون بالشعر أو يجنون عليه على الأقل.
و إذا سألتهم عن قطعة شعرية في هذا البت، فإنهم سيقتصرون على القُطَيْعَة الوحيدة التي يتداولونها منذ نعومة أظافرهم:
فُمْ أُمْ نُمْ نينْ فُمْ زَيْنْ كلْ زَيْنْ فلْ عَيْنْ ..
فأين الشعر من هذا التهجّي المفتعل و الخالي من المعني؟
و متى سيدرك مردّدوا
"عند انتيٌاكْ رَيْتْ إلٌ حَاكْ امْرَ مَجْعُولْ اعْليهَ هَوْلْ تَظْحَكْ و اتْگولْ رَظْعُ لعْجُولْ" .. إنهم لا يستطيعون تقديم نموذج آخر من هذا البت، إلا إذا قرّروا نسجه في الحين، وعندها لن يخفى على المتتبّعين ما في إنتاجهم من التكلّف و الإرتجال؟
و السؤال نفسه موجه إلي مرددي:
ذلٌلي عَادتْ بَاجْلي = = طَفْلَ مَا تُقَاربْ = = لَيْعتْهَ مَعْمُورَ= = منْ قَديمْ الزٌَمْانْ
منتْ أعْمَرْ ولْ اعْلي = = ولْ اعْمَرْ بُشَاربْ = = ولْ اعْل شَنْظُورَ = = ولْ أحْدْ منْ دَمَانْ.
إن هذا النوع من الأمثلة لا يخدم نظرية أحقّية "بتْ المزارك" في أن يعتد به و أن يتعامل معه الشعراء تعاملهم مع "ابتوتَ اكْبَارْ" من أمثال "لبْتَيْتْ" و "البَتْ لَكْبيرْ" و "الرسم" و "لبٌيْرْ" و "اسْغَيرْ تيگادْرينْ" و "امْرَيْميدَه" و "بُو عمْرَانْ".
و من جهة أخرى، فإننا نستغرب المراجع التي يعتمد عليها القائلون بوجود ما يسمونه "امْرَيْميدهْ الْبَيْظَ" و"امْرَيْميدهْ الْكَحْلَ"، لأن الراسخ عندنا و عند من أدركناهم من أساطنة هذا الفن، هو أن "امْرَيْميدَه" هي "امْرَيْميدَه" فقط، ولم نسمع أبدا عند المنظّرين القدماء، أنها تتلوّن على شكل الحرباء !! ف"امْرَيْميدَه" لا تتطلّب أكثر من شاعر مقتدر وبارع في فنية الإقتصاد في الألفاظ، لينظم "تيفلواتن" من سبعة متحركين يلتقي في كل منها ساكنان بعد المتحرك الثاني.
وعلى ذكر هذا "الْبَتْ"، فإن بعض المراقبين يعتبرون أن نهضته الحقيقية بدأت عندما إستعمل لكتابة النشيدين المشهورين "الْخَيْرْ جَانَ بمْجيكُمْ" و "نشيد الكتاب" اللذين لاقيا إستحسانا منقطع النظير في الأوساط الأدبية، وأصبحا مثالا للنشيد الناجح، حتى أن الشعراء اليوم لا يتصورون أنه بإمكانهم نظم نشيد من أناشيد الحملات الإنتخابية إلا في "بت امريميده".
ومن المعروف أن هذا "البت" كان محصورا في الأوساط الشعرية على أنظام قديمة في الفخر و "كفان" مبتذلة، تنسب إلى حليف لقبيلة "مسّومه" يدعى محمود .. مثل:
ابْگيْتْ فالدٌارْ انْكَوْكي = = و اجْرُوحْتْ الْخَدْ إبَانُ
و امْشَاتْ وَلْفي يَيَوْگي = = في اسْلاَمْتْ اللٌه وُ مَانُ
والحقيقة أن "لبتوت" أكثر من أن تحصى بدقة، ولكن أهمها على الإطلاق هي: "لبتيت" ومشتقاته، و"البت لكبير" ومشتقاته و"تيگادرين" ومشتقاتها و"بو عمران" و "تاطرات" و مشتقاتها و"امريميده".
في الحلقة الثانية من الدراسة التي أعدها الباحث والأديب محمد ولد أحمد ولد الميداح عن الأدب الحساني، يتوقف الرجل بإسهاب عند التجربة الرائعة والمميزة لعميد الأدب الحساني، الأستاذ المرحوم محمدن ولد سيد إبراهيم، كما يتطرق ولد الميداح إلى ما جرّه تطفل عدد من الباحثين على هذا الأدب، ودورهم في الإضرار بهذا الفن، كما يتناول الباحث التعريف بهذا الفن، ويقف عند ملامح عطائه في هذا المجال، ما بين 1973 إلى العام 2007.
ولا بد أن نقف هنا وقفة إجلال و تقدير و ترحم على روح فقيد الأدب الحساني و عميده، المغفور له محمدن ولد سيد إبراهيم، الذي قاوم ورابط من أجل حفظ الموجود و طلب المفقود، والذي لولا ما أبلاه من بلاء حسن لكانت نفائس من أمهات "لبتيت" قد تلاشت إلي الأبد .. كما نلاحظ أن البرامج الإذاعية التي تعنى بالأدب، تشهد تحسنا الآن ملحوظا، مصدره تفتّح القائمين عليها، و بحثهم المستميت عن الثقافة التي تجمع، لا عن تلك التي تفرق ..
ولا يفوتنا في نفس السياق أن نذكر أن الساحة الشعرية اليوم، تعجّ بالمبدعين الأكفاء، و تشهد تحولا إيجابيا، تحدوه رغبة حقيقية في الرجوع إلى التراث الثقافي الأصيل .. و لا يمكن أن نحصر أولئك المبدعين المتميزين في سن معينة، أو في منطقة محددة، من مناطق الوطن ..
وخلاصة القول، أن الشعر الحساني مهدد من طرف المتطفلين عليه، وبعض الباحثين المفتقـرين لأدوات البحث وآدابه، أكثر من تهديده من طرف ندرة الشعراء أنفسهم، وتراجع مستوى إنتاجهم .. ولن يكون الشعر في مأمن من الإبتذال الذي يترصده، إلا إذا تبنّته هيئة رسمية قادرة ومصمّمة على وضع خطة تهدف إلى حراسته ضد الأدعياء والمتشاعرين وبعض "كبار المثقفين" الذيـن يحرّفونه حسب هوى الجهة التي "يتعاملون" معها.
وقد أردت أن أجعل من هذه الصرخة المدوية، والتي لا تخلو من بعض الإطناب، مدخلا لمجموعة ذكريات مختلفة، وأشعار مبعثرة، كتبتها خلال العقود الثلاثة الماضية ( أي ما بين 1973 و 2007) و تتناول بعض الأغراض دون غيرها.
التعريف بهذا الجنس الأدبي..
يعرف الشعر الحساني بتسميات عديدة، لكل واحدة منها مدلولها الخاص، ومنها:
لغن: و معناه الغناء بالفصحى
الموزون
الشعر الشعبي
الشعر اللهجي
وسنتناولها في ما يلي بشيئ من التفصيل:
لغن: هذه هي التسمية القديمة، ويري البعض أن لها علاقة بالغناء الذي تمارسه إحدى الفئات الشعبية، ولا شك أن الشعر الحساني لصيق بالغناء، وأن القدماء كانوا يفصلون بهذه التسمية بينه وبين الشعر العربي الفصيح، الأكثر منه نخبوية، والذي كانت تمارسه فئات تبتعد شيئا ما عن الطرب و الغناء، تحت ضغط ضرورة الحماية الروحية ضد القوة المسلحة.
وإنطلاقا من ذلك، فإننا نرجّح أن يكون "لغن" بدأ تعاطيه في المجتمعات الأكثر إحتكاكا مع فئات المغنين -أي إيكاون- ويتعلق الأمر هنا بالمجتمعات الحسّانية، التي تخلّت في وقت ما عن اللسان العربي الأصيل، وأصبحت تتحدث بالدارجة، تاركة الشعر الفصيح للمجموعات التي كانت تتعاطى البربرية كلغة للتواصل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النظرية لا يمكن تعميمها على الإطلاق، لأن "لغن" كان يتعاطى في مختلف المجتمعات البيظانية، وإن كانت أكثرية النصوص القديمة من إنتاج مجموعة معينة، هي مجموعة بني حسان.
الموزون: تطلق هذه التسمية على كل كلام مقفّى، وبذلك يستوي فيها الشعر الفصيح، و الشعر الحساني، و هي تفرّق أساسا بين الشعر والنثر، و لعل ذلك ما حدا بها إلى أن أصبحت في المفهوم العام دالّة على السبك اللغوي، وجودة إختيار الكلمة المناسبة، ووضعها في المكان المناسب، بغض النظر عن المستوى الأدبي للنص.
الشعر الشعبي: مع بداية نمو الفكر القومي العربي، وكردة فعل على الرفض الذي قابل به إخواننا العرب ميلاد الدولة الموريتانية، بدأ بعض الشباب الموريتانيين يتعاملون مع الشعر الحساني، ومع كل ما هو "بيظاني" أصيل، بقدر من الإمتهان، ويرون في الإهتمام بتلك الخصوصيات، سببا لعزلة البلاد عن الركب الثقافي في الأمة العربية ..
وبلغ ببعضهم الحرص على عدم التميّز عن باقي الشعوب العربية، حدودا غريبة جعلتهم يشـنّون الحرب على الدرّاعة وعلى كلمة "ولد" المميزة "للبيظان"، وعلى العادات الغذائية، ويحرصون على أن يستبدلوا هذه العبارات ببدائل، من مفردات تستخدم في الشرق الأوسط، أو في الخليج العربي.
و شرعوا في تعريب بعض الأسماء، مثل "نواكشوط"، التي تحوّلت إلى "نوق الشط" .. و حتى بعض الأسماء التي لا علاقة لها بالعربية، كآبدجانه (Abidjan) مثلا، أصبحت على ألسنة بعضهم يشار إليها ب "أبو دجانة".
وقد سبق هذه المحاولات الإستنساخية، ما عمل عليه المستعمر الفرنسي، من محاولة طمس الهوية الموريتانية بكل الوسائل، وهي المهمة التي أوكلها إبّان رحيله إلى الطبقة المثقّفة آنذاك، أي "المتفرنسين" الذين قاموا "بواجبهم" على أكمل وجه، وأبدعوا في إبتذال كل ما هو "شعبي" و"عربي" على حد سواء، وفي جو كهذا، وجد الشعر الحسّاني نفسه في دائرة ضيقة، ومجال ثقافي لا مكان له فيه، إلا إذا رضي بالدونية، وقبل وصفه "بالشعبية" التي لا يحسد عليها.
الشعر اللهجي: يطلق الباحثون هذه التسمية على شعر "البيظان"، و هي تسمية أكثر إنصافا من غيرها، لأنها تنسب هذا الشعر إلى اللهجة الحسّانية، دون أن تطلق عليه حكما، أو تضعه في خانة يستشفّ منها عدم تبنّيه بكل فخر وإعتزاز.
البحور الشعرية أو "لَبْتُوتَ"
ليس الهدف عندنا من هذا البحث، سرد البحور الشعرية، و تقديم قواعدها العروضية، لأن ذلك العناء قد سبقنا لتجشّمه باحثون أكفاء .. وعلى كل من أراد التعمّق في قضايا "لغن" الفنية، أن يعتمد على ما توصلوا إليه من نتائج هامة.
لقد إرتأينا أن نقتصر على إيراد بعض الملاحظات الشخصية، لإنارة الدارسين ومساعدتهم على حسن إختيار المراجع المناسبة، لأن بعض المعلومات التي أصبحت اليوم في متناول الجميع، تفتقــر كثيرا إلى الموضوعية، وتركز على شكليات لا تفيد المتلقّين، بل تصدّهم عن الهدف المنشود.
إن اهتمام كثير من الشعراء و المتشاعرين، والذين نصّبوا أنفسهم للتدريس، وسخّرت لهم كل وسائل التبليغ، يكاد يكون منصبّا على سرد "لبتوتَ" أي بحور الشعر اللهجي، دون أن يساعد ذلك المتلقّي في إكتساب الموهبة الشعرية التي هو بحاجة إليها .. ولا تفيده إلا بشحن رأسه بمسمّيات جافة، و غالبا ما تكون من خيال مقدّمها.
إن غالبية البحور الشعرية التي تتداولُ أسماؤها في الأوساط "الأدبية"، ما هي إلا بحور نظرية، نادرة الإستعمال أو منقرضة منذ أمد بعيد، ولا يمكن لمروّجيها أن يقدّموا للمتلقي أكثر من نموذج أو إثنين منها.
فما الفائدة من شحن أذهان الدارسين بأسماء بحور لا يمكنهم طول حياتهم أن يسمعوا منها إلا قطعة أو قطعتين، مثل "المشكل و الرمز و بت أثلات و اللام بوكر والواكدي الزاحل" إلخ ..؟
حديث عن بعض المشاكل..
إن المعضلة الكبرى تكمن في حرص بعض الكتّاب والباحثين ومقدّمي الإرشادات، على إظهار تمكّنهم من الموضوع، من خلال تقديم ما عندهم على أساس أنه حقائق لا تقبل النقاش، و لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
و في مواجهة هذه الوضعية، فإنني أنصح معدّي الرسائل الجامعية، وغيرهم ممن لا يريدون الإنجراف وراء الترّهات، أن يتحرّوا الدقة في ما يقرؤونه، و ما يسمعونه وأن لا يصدّقوا تلقائيا كل ما رأوه مكتوبا بحروف براقة على صفحات كتاب أنيق .. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن القائلين بشاعرية "بت الرمز" مثلا، لا يدركون أنهم يتلاعبون بالشعر أو يجنون عليه على الأقل.
و إذا سألتهم عن قطعة شعرية في هذا البت، فإنهم سيقتصرون على القُطَيْعَة الوحيدة التي يتداولونها منذ نعومة أظافرهم:
فُمْ أُمْ نُمْ نينْ فُمْ زَيْنْ كلْ زَيْنْ فلْ عَيْنْ ..
فأين الشعر من هذا التهجّي المفتعل و الخالي من المعني؟
و متى سيدرك مردّدوا
"عند انتيٌاكْ رَيْتْ إلٌ حَاكْ امْرَ مَجْعُولْ اعْليهَ هَوْلْ تَظْحَكْ و اتْگولْ رَظْعُ لعْجُولْ" .. إنهم لا يستطيعون تقديم نموذج آخر من هذا البت، إلا إذا قرّروا نسجه في الحين، وعندها لن يخفى على المتتبّعين ما في إنتاجهم من التكلّف و الإرتجال؟
و السؤال نفسه موجه إلي مرددي:
ذلٌلي عَادتْ بَاجْلي = = طَفْلَ مَا تُقَاربْ = = لَيْعتْهَ مَعْمُورَ= = منْ قَديمْ الزٌَمْانْ
منتْ أعْمَرْ ولْ اعْلي = = ولْ اعْمَرْ بُشَاربْ = = ولْ اعْل شَنْظُورَ = = ولْ أحْدْ منْ دَمَانْ.
إن هذا النوع من الأمثلة لا يخدم نظرية أحقّية "بتْ المزارك" في أن يعتد به و أن يتعامل معه الشعراء تعاملهم مع "ابتوتَ اكْبَارْ" من أمثال "لبْتَيْتْ" و "البَتْ لَكْبيرْ" و "الرسم" و "لبٌيْرْ" و "اسْغَيرْ تيگادْرينْ" و "امْرَيْميدَه" و "بُو عمْرَانْ".
و من جهة أخرى، فإننا نستغرب المراجع التي يعتمد عليها القائلون بوجود ما يسمونه "امْرَيْميدهْ الْبَيْظَ" و"امْرَيْميدهْ الْكَحْلَ"، لأن الراسخ عندنا و عند من أدركناهم من أساطنة هذا الفن، هو أن "امْرَيْميدَه" هي "امْرَيْميدَه" فقط، ولم نسمع أبدا عند المنظّرين القدماء، أنها تتلوّن على شكل الحرباء !! ف"امْرَيْميدَه" لا تتطلّب أكثر من شاعر مقتدر وبارع في فنية الإقتصاد في الألفاظ، لينظم "تيفلواتن" من سبعة متحركين يلتقي في كل منها ساكنان بعد المتحرك الثاني.
وعلى ذكر هذا "الْبَتْ"، فإن بعض المراقبين يعتبرون أن نهضته الحقيقية بدأت عندما إستعمل لكتابة النشيدين المشهورين "الْخَيْرْ جَانَ بمْجيكُمْ" و "نشيد الكتاب" اللذين لاقيا إستحسانا منقطع النظير في الأوساط الأدبية، وأصبحا مثالا للنشيد الناجح، حتى أن الشعراء اليوم لا يتصورون أنه بإمكانهم نظم نشيد من أناشيد الحملات الإنتخابية إلا في "بت امريميده".
ومن المعروف أن هذا "البت" كان محصورا في الأوساط الشعرية على أنظام قديمة في الفخر و "كفان" مبتذلة، تنسب إلى حليف لقبيلة "مسّومه" يدعى محمود .. مثل:
ابْگيْتْ فالدٌارْ انْكَوْكي = = و اجْرُوحْتْ الْخَدْ إبَانُ
و امْشَاتْ وَلْفي يَيَوْگي = = في اسْلاَمْتْ اللٌه وُ مَانُ
والحقيقة أن "لبتوت" أكثر من أن تحصى بدقة، ولكن أهمها على الإطلاق هي: "لبتيت" ومشتقاته، و"البت لكبير" ومشتقاته و"تيگادرين" ومشتقاتها و"بو عمران" و "تاطرات" و مشتقاتها و"امريميده".
تقديم
بون ولد إميد
نقيب المسرحيين الموريتانيين
mederdratoday@gmail.com
هناك 7 تعليقات:
شكرا ل دمب علي بخثه هذا والذي مازلنا ننتظر حلقات اخري منه:
وتعليقا علي هذه الحلقة فقد اورد الباحث ان بعض المراقبين يعتبرون أن نهضة امريميده الحقيقية بدأت عندما إستعمل لكتابة النشيدين المشهورين "الْخَيْرْ جَانَ بمْجيكُمْ" و "نشيد الكتاب" وهنا لا اوافقه الراي
فعن اي مراقبين يتحدث فالنشيدان المذكوران هما نهضة في عالم الجري وراء الحكام وهو ما جعل المتلقين يستحسونهما جريا كذلك وراء الحكام وليسا نهضة في امريميد القديمة وقد قيل منها الكثير الممتاز قبل عالم الانتخابات والديمقراطية والتصفيق للحكام.
وهنا اعتب علي الباحص محمد ول الميداح (دمب) ذكره لهذين النشيدين وهو قائلهما طبعا فليس ذلك من شيمه التي عهدناها حيث عرفناه اديبا اديبا يتميز اسلوبه بالذكاء والديمين الامر الذي يتناقض مع شكر الذات . وشكرا
مقاربة ناضجة .. شكرا للأديب محمد ولد الميداح ..
صدقت أيها المتدخل رقم 1 وأصبتَ كبد الحقيقة ، ولد الميداح أديب كبير ذو مقاربات ناضجة، واع وعلى قدر من الخبرة بهذا الفن العريق .
لكن قدمه زلت في خبر امريميدَ زلة مضحكة.
شكرا للمعلق متابع فنشيد الكتاب كان عصر انحطاط امريميده او لنقل: ظلم امريميده فالظلم حسب تعريفه هو وضع الشيء في غير محله وقد وضعت امريميده في محل التصفيق للحكام وهو مكان لا يليق بها
يجب أن لا يختلط علي المعلقين مواقفهم السياسية و الطابع الفني البحت للمقطوعات الشعرية بغض النظر عن محتواها... امريميدة خبرها معروف و ما سجل منها عبر التاريخ محفوظ.
و الشعر يميز بفنيته لا بمحتواه السياسي أو غير السياسي.
محمد كاتب معروف له كامل الوفاء والتقدير الاحترام وليس كباقي الفنانين الاخرين ومابرنامج البداع عنا ببعيد أماأتمحصير فليس سياقه مامنا,
لا أحد فوق النقد إن بدا منه ما يستوجب ذلك... صحيح أن السيد محمد ولد الميداح أثبت التاريخ أنه من أحسن الناس أخلاقاو أكثرهم استقامة و لكن لا بأس في أن يوجه له أحد نقدا.
إرسال تعليق