حين سافرت للحج آخر مرة منذ سنوات ليست بالكثيرة، وفقني الله لإتخاذ القرار بتأدية فريضة الحج مع والدتي، لم أباشر الإجراءات المتبعة للسفر ضمن أفواج الحجاج الموريتانيين، فقد كان هناك من يقوم بالأمر، لذا بدأت رحلتي التي لا تقل إثارة ومتعة وغرابة عن رحلات أبطال مقامات الحريري والهمذاني، فجر يوم ساخن من أيام صيف نواكشوط.
حطتنا السيارة أمام المسجد الكبير بالعاصمة حيث إحتشد سكان نواكشوط عن بكرة أبيهم لتوديع حجاجهم، كان القائمون على ما سأسميه خلال هذه السلسلة من الكتابات "التنظيم المتوحش" على غرار "الفوضى الخلاقة"، قد طلبوا من الناس الحضور في هذا الوقت "أي بعد صلاة الصبح"، للحد من ظاهرة المودعين عبثا.
ولم يكتفوا بالأمر بل أحاطوا المسجد بعشرات من شرطة العاصمة، يحمل كل واحد منهم عصا يلوح بها لكل مقترب، حيث تطلب الأمر من ضيوف الرحمان أن يرفع كل واحد منهم أوراقه حتى يسلم مما بدا أنه "ضربة دبوس تنظيمية محتملة".
تقدمت مع والدتي ونحن نرفع أيدينا بالأوراق كما يفعل المجرم بعد حصار لا مفر منه إلا بالموت أوالاستسلام.
داخل حوش المسجد أخذ الناس يتدافعون لركوب الباصات، كان هناك عدة منظمين يصيحون فيهم "بشور ، بشور، هيه بشور، ستركبون جميعا"، لم يعرهم أحد أي اهتمام، كانت الصيحات تتعالى من هنا وهناك:
ـ أراه أوط علىـ
هيه،
لمر بالك لتواغطكـ
أعطبت الشيبانيـ بوي
حانين نركب عنك آن متافك مع هذي لمرا..
أمام الطائرة تبين أن ثلث من حملتهم البيسات إلي مدرج المطار كانوا من المودعين الذين استطاعوا بقليل من الجهد و"المئات إختراق الطوق الأمني، والمرور من تحت عصي البوليس، كدت أصطدم بأحدهم وهو ينزل من الطائرة بعد أن وصل لسدرة المنتهى في توديعه الثقيل.
لم يكن النازلون آخر المودعين، فقد كانت هناك جولة تصفيات لإخراج من جلسوا بجوار ذويهم في هوس غريب من المبالغة في التصرفات التي تتجاوز كلما عرفته الشعوب من التمسك بالعادات والتقاليد "طبعا السيئة".
في مقعدي من الطائرة الذي لم يخضع طبعا لأي ترقيم ولا نظام، تمددت وأنا أمتّع نفسي بالرفاهية التي تطغى على المكان، كانت تلك هي المفاجأة السارة، فقد قدّر في تلك السنة أن الموريتانيين نشروا إعلانا للبحث عن طائرة كبيرة يؤجرونها لحمل أفواج حجاجهم، وكان من قضاء الله أن يقع نصيبهم على إحدى شركات النقل الأميركية التي أجرت لهم طائرة " أبوينغ 747" لا أبالغ إذا قلت إنها قادمة من المصنع، على الأقل هذا ما بدا لي.
طاقم الطائرة مكون من "دوزينتين " من جدعات، وجدعان النصارى، تتراوح أعمارهم مابين العشرين والخامسة والعشرين، بدوا لي متحمسين، ويستخدمون نفس العبارات الأدبية المعهودة في الغرب، كلما دخل تيفاي أو تيفاية أو شيخ أو شيخة، تتعالى هنا وهناك همسات من نوع "hi" , "welcome", "good morning "
الواقعة الأولى في برنامج الرحلة حصلت أمامي، كنت أراقب إحدى الفتيات المضيفات وهي تخدم المتجولين في الممرات الضيقة ، كانت تساعد أحدهم على رفع "بيلوكة" يحملها ليدسها داخل خزانة الأمتعة فوق الركاب، شككت حسب حركات الرجل فيما لو كان يخطئ فهم ما تحاوله الفتاة، التي كانت تقوم بحركات روتينية من عملها اليومي، والتي قد تعبر عن أشياء أخرى في مخيلة هذا الحاج العربي البدوي، الذي ربما كان يقف لأول مرة وهو يلاصق "نصرانية" شبه عارية، كان مرتبكا يهذي بكلمات: " الفوك ،،، الفوك"..
فجأة، وقبل أن أستجمع الموقف تناثر الحب الأحمر فوق جسمها كله، رأيت ما أدركت أنه آلاف الحبات من " إنبك" النبق، تسيل فوق سيقان النصرانية المضيفة، وتتدحرج تحت المقاعد وبإتجاه مقدمة الطائرة،
ـ oh,,,my god,,oh,,no
هكذا تكلمت المضيفة أما زميلها الذي كان أمامها مباشرة، فقد أخذه الموقف إلى درجة الذهول، وهو ما عبر عنه عندما رأى زميلته وهي تحاول جاهدة التخلص من حبات النبق التي دخلت تحت ثيابها
ـ wow,, what happend
كان الرجل الحاج الذي عجبت فيما بعد من طول لحيته، قد غفل عن مخلته الكبيرة غير مربوطة، والتي إنفتحت فجأة لتمطر الفتاة المساعدة، صاحت سيدة تجلس غير بعيد:
- "يوك حته .. هذا النبك؟"
شيخ كبير يحرك سبحة بيده ولا يزال يجاوز حباتها – رغم أنه مشغول بالكلام عن الاستغفار:
- هذا حرام، الطعام، توطّات عليه النصرانية والنصراني..
حضر أفراد جدد من الطاقم، كانوا يعتذرون للسيد الذي "كب" النبق على رأس زميلتهم:
ـ sorry,, sorry,, we are sorry,,,,wait I will bring you,,, ـ ،،،،،،،،
إبتعدت الفتاة وعادت بعد لحظات وهي تحمل عدة أكياس قوية وأنيقة تحمل شعار الشركة الناقلة .. قسّم الرجل بيلوكته، ثلاثة أجزاء في ثلاثة أكياس، وجلس في مكانه وهو يتصبب عرقا .. كانت هناك مشكلة حقيقية، الوقت يمر، وما بدا أنه حركة غير عادية لركاب يحاولون الجهوز للجلوس في مقاعدهم هو دوران في حلقة مفرغة، كلما جلست فئة وقفت أخرى، كلما خرج شخص من الحمام دخل آخر، الناس يقفون ويمرّون ويتزاحمون، ينزلون حقائبهم ويفتحونها، يعيدونها، وأثناء ذلك يسدّون الطريق، عندما يفضّوا الطريق، يتذكر آخرون أن لهم معارف في مؤخرة الطائرة أو في مقدمتها لم يسلموا عليهم بعد ولم يسألوهم عن الأهل وعن لخيام..
ساعتان، ثلاث ساعات، أربع، أخيرا أدرك الطاقم أنه ينتظر الجهوز عبثا، وأن الصبر وجودة الخدمة ربما لا ينفعان في الرحلة رقم .. ــ الظاهر أنهم إستعانوا بالمنظمين..
أخيرا نزل أحدهم من الطابق العلوي للطائرة "الدرجة الأولى" وكلّم الحجاج عن طريق مكبر الصوت:
ـ "الخلط أنتوم كافيكم من حصرت ذي الطائره .. كافيكم من تخباز الدبش .. كافيكم من الرد .. كافيكم من البول .." .. "أكعد عنّا فبليداتكم خلون ننطلص.."
عجبت من اللغة التي كلّم بها هؤلاء الحجاج، الذين دفع كل واحد جلّ ما يملك وما لا يملك، والذين من بينهم شيوخ وعلماء، والذين لم يكنوا ليقوموا بغير ما قاموا به في موقف يتبوأ هو فيه منصبا قياديا ويتفوه بخطابات من هذا النوع .. لكن عجبي سرعان ما زال، عندما نزل السيد ورأيت أنه يلبس دراعة رقيقة تكشف عن صدره الذي تركه من غير قميص.
أخذ يحك ذراعه وهو يتجول في الممر ويخاطب الناس واحدا واحدا:
-هيه أكعد عن
-أنت كعدي
-أرجع .. أرجع ذ ماه وقت الدوش، الطائرة لاه تكيّم
-مرحبا وسهله، أنت أشحالك، إياك لباس، إياك الخير؟
"واحد من معارفه" إنضم إليه عدد آخر من المنظمين، كلما أجلسوا جماعة وقفت أخرى..
إشتغلت محركات الطائرة، مما زاد من إضطراب الناس ومن حركتهم .. طاقم الخدمة يتأكد من مساند المقاعد، ومن أحزمة الأمان .. شدّ الحزام لكل فرد على حدة، وأخيرا بدأت الطائرة بالتحرك ببطء، وبدا أن خلية النمل داخلها ستستسلم للأمر المحتوم .. تعالت الدعوات والتهليل والتكبير وآهات الخوف من سقوط الطائرة .. زادت سرعة الطائرة وتوجهت لمدرج الإقلاع .. توقفت قليلا، ثم طغى أزيزها مبحوحا، يخالط الأعصاب ويعشش في الدماغ، وإنطلقت،،،، فجأة، وقف أحد الشيوخ، تردد قليلا وهو يبحث عن إتجاه القبلة، إجتهد، و، "الله أكبر" قالها وهو يرفع يديه في الممر .. هبّت إحدى المضيفات كانت قد شدت حزامها بعد ست ساعات من ذرع الممرات، ثم أخرى، ثم ثالثة،
"wait, wait, wait, "
أخيرا بمساعدة بعض الركاب تم حشر الشيخ في مقعده، وتم ربط حزامه بالقوة قبيل أن ترفع الطائرة أنفها تجاه السماء.
إحدى الحاجّات علقت: ـ "لي .. ما إيصلّي ركعتين؟"
أخيرا أصبحنا في الجو وعاد الركاب للممرات وفتح الحقائب والتزاحم عند أبواب الحمامات، كانت هناك مشكلة كبيرة في توزيع الطعام، كنت أراقب مضيفة قادمة تدفع عربة الأكل، ووراءها أربعة أشخاص يطلبون منها أن تفسح لهم للمرور، لم تسعفها كل عبارات الأدب التي تعلمتها، إبتسمت وأشارت إلى عربتها وقسمات وجهها تقول: "ليس باليد حيلة"..
بيني وبينها عقد أحد الحجاج مجلسا علميا وأدبيا مع جاره المقابل، منذ لحظات تعارفا وأدركا أنهما من نفس المنطقة، ثم إكتشفا أن والديهما سبق وإلتقيا، وأن والدتيهما قريبتان يربطهما دم غريب، قادم من جدة أخرى من قبيلة أخرى .. تباحثا وحكيا شعرا، ثم ناقشا حكما فقهيا وأوردا بعض الأنظام الواردة فيه، ثم دخلت العربة بينهما .. المضيفة تشير بأنواع الأشربة للجالس أمامي، راقبته وهو يتفحصها بعد أن مالت إليه لتسمع كلمات كان يحاول إيصالها لها، مع أنه لا يتكلم لغتها، لم يرفع بصره عنها لحظة، عجبت كان كهلا ربما خمسون أو ستون، حسب حديثه، فهو متفقه في الدين، أعجبت بفصاحته عندما كان يحكي الأنظام، لا شك أنه من أسرة علم، فجل ما حكى من إنتاج أسرته، لكن ما لعينيه تحررتا من كل هذا الإرث؟ .. ثم تذكرت أن الموريتانيين بالخصوص، يستثنون من الأخلاق الحسنة للرجل غض البصر عن النساء.
تجاوزت المضيفة، ورجع الحديث، إبتدر الكهل محدثه:-دخلت بيننا هذه المخلوقة!
إنشغلت عن حديثهما بتحليل كلمة "المخلوقة"، ترى لماذا حدّدّ المضيفة بالذات، وجعلها عنوانا رغم وجود العربة والأكل؟
هل ضاق صدره عن إخفاء إعجاب حل به عن محدّثه؟
ثم لماذا إستخدم عبارة "المخلوقة"؟
هل هو نوع من التعبير عن الغموض الذي يكتنف هذه الفتاة التي تتكلم لغة أخرى وتتوفر فقط في مكان خارج المكان؟
أم هو نوع من التصنيف المطلسم في صياغة "مفعولة"؟
أم إنه نوع من المسالمة الخفية والتقرب اللاواعي، حيث إنها مخلوقة ومجبولة على ما هي عليه، وبالتالي فـ "دعوها فإنها مأمورة"؟
ربما كانت تلك التسمية تبرئها مما كانت ستسمى به لو كانت تخدم عربا آخرين في طائرة أخرى، من الخليج مثلا، ربما كانوا سيطلقون عليها "المتبرجة، أو الفاسقة، أو العاهرة...
أسلمتني هواجسي لصوتيهما يبدو أنهما لا يزالان يتحدثان عنها..
قال الأديب:ـ من أحسن ما قيل فيهن قول البعض:
مدت إلي يدها
وما كرهت مدها
والحمد لله على
أن لم تمد خدهـا
لم يخرجني من الحديث الممتع للأديبين إلا أصوات الناس وهم يهمهمون بأن أمرا جللا حصل في مؤخرة الطائرة، ازداد الهرج، خرج الناس من أماكنهم وهم يدوسون الصواني الكثيرة التي ملئوا بها الممرات، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء إنتظار المضيفات لجمعها،
إمتلأت الممرات بالطعام وفضلات الشراب،
أحدهم:- الطائرة سائلة- سائلة؟
كيف سائلة؟
-الماء يملأ الممر قادما من الحمامات!
رأيت إثنين ـربما مهندسين من عمال الطائرةـ يهرولان ويدفعان الناس ليصلا إلى محل الحادثة، لم تعجبني وجوههم وأنا التي وطّنت نفسي على التّأني وتحكيم العقل .. هل بالإمكان أن تطال أيدي "التنظيم المتوحش" أمان هذه الطائرة التي تحوي إحتياطات للأمن والسلامة تتجاوز الكثير من الخيال، هل يمكن أن يفعلها القوم ويحطموا طائرة دفعوا كلما يملكون في الجو وهم يتوجهون إلى رحلة العمر والأحلام، في واقعة ستحطم الأرقام القياسية وتتصدر عناوين الحوادث الغريبة، "الحجاج الموريتانيون يحطمون طائرتهم في الجو"؟
أخيرا رضخ الحجاج لصراخ المنظمين وعبوس الطاقم، بدأت الأخبار تتوارد، إختلفت الروايات، فمن قائل إن الحمامات إنسدت لكثرة ما دسّ فيها من ورق، ولم يبلّغ أحد عن الأمر، وتوبع في إستعمالها حتى سال الماء خارجا في غفلة من المضيفين الذين راحوا للإستراحة بعد توزيع الأكل، ومن قائل إن رجلا شوهد وهو يدخل الحمام وبيده كأس من كؤوس الشراب، بقي وقتا يملأها ويستحم بها، حيث أكدّ شهود عيان أنه خرج ورأسه يتقاطر ماءا وجسمه مبلل!
ومن مرجّح أن البعض رمى أشياء في مقعد الحمام، وتزامن ذلك مع الوضوء على الأرضية..
هدأ الناس بعد أن قدّم لهم المنظم صاحب الصدر المكشوف محاضرة من الصراخ والكلام النابي، ضمّنها أنهم كادوا بتهورهم وبداوتهم أن يسقطوا الطائرة بمن فيها، وأن الحمامات قد أغلقت نهائيا، ولا بول قبل الديار المقدسة..
همد الحجاج ونام بعضهم، حتى إنني ظننت أن مخدرا دسّ لهم في الطعام، ولم تحصل حوادث تذكر حتى وصلنا مطار جدة الدولي، وهناك كانت البداية .. لكنها بداية أخرى.
منت الناس
mederdratoday@gmail.com