الأمة ورمضان (3)
7- يأتي رمضان آخر، وعراق العروبة والإسلام تهراق دماؤه أنهارا بأفظع ما يحصل في أي مكان في العالم، بسبب عظمة الكنز العراقي الذي تصطرع عليه أطماع شتى داخلية وخارجية، بما يؤكد فشل الرهان على ديمقراطية تقدم على ظهور دبابات الاحتلال.
وقريبا من ذلك، يحدث في أفغانستان وفي الصومال وباكستان، حيث تصطرع قوى "إسلامية" بدعم ولصالح قوى أجنبية، فهلاّ إستفظع الصائمون القائمون تورطهم في دماء إخوانهم، فخجلوا من صومهم إذ "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
8- يحل ركب رمضان آخر وسجون المسلمين -وبخاصة العرب منهم- مزدحمة بعشرات الآلاف من المساجين السياسيين، معظمهم من دعاة الإسلام، هم في الجملة ضحايا غياب الحرية والإعلام الحر والتسلط الدولي، إلى جانب ملايين من المهجّرين في أصقاع الأرض، فرارا من مسغبة، أو بحثا عن ملجئ أو إبتغاء لمعرفة، بما يجعل هذه المنطقة، الأكثر تخلفا وإستبدادا، بمقياس التنمية المعاصرة.
أولا يخجل الجلاّدون والنهّابون والمزورون لإرادة شعوبهم من صومهم إن كانوا يصومون، أو من أن تحل بهم لعنة إنتهاكهم لحرمات هذا الشهر الفضيل؟ ألا يحذرون وعيد مبعوث العناية الإلهية إذ قال عليه السلام "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (البخاري).
ومثلهم سحرة الفراعين من الإعلاميين الذي جعلوا رزقهم الكذب والزور والتضليل .. فهلاّ رفع الضغط لكف أيدي أولئك، إن لم يحجزهم خوف من أن يرد صومهم على وجوههم؟
9- يأتي رمضان ومراجل الغضب لدى جمهرة الأمة -وبخاصة العرب- تغلي بسبب الظلم الإقتصادي والتهميش السياسي وتكميم الأفواه وتزوير الإرادات، والتفريط في ما تبقى من إستقلال، والتصامم عن نداءات الإصلاح، بما أحدث إنسدادا وإحتقانا، بدأت إرهاصات إنفجاره في أكثر من قطر وبلد، لم تعد الأنظمة من علاج له غير تكثيف وسائل القمع والإمعان في الإستجابة للمطالب الأجنبية في التطبيع مع الكيان الصهيوني، متحدية شعوبها، قد جرّها على ذلك الدعم الدولي وتشتت صفوف المعارضة، وكان متاحا الإفادة مما يبعثه هذا الشهر الفضيل في الأمة من روح جماعية لتوحيد صفها، بما يحمل الحكام على النزول عند إرادة الشعوب، أو الذهاب غير مأسوف عليهم.
10- كما يحل رمضان وكثير من وسائل الإعلام -ومعظمها مدعوم من أنظمة تنتمي للإسلام- ممعنة في السعي لتفريغ شرائع الإسلام وشعائره من محتوياتها، ومنها شعيرة الصوم، فتعمد إلى مزاحمة قيام لياليه بعرض المسلسلات الهابطة، تهييجا للشهوات، وتسليعا للمرأة، وإغراء بمحاكاة مجتمعات الإستهلاك في شهر عنوانه الطاعة والإمساك، لا الفجور والإستهلاك، فليتق الجميع ربهم، فرب كلمة من غضب الله تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفا، كما أخبر عليه السلام. وحري بربات وأرباب البيوت الصائمين أن يمسكوا عن الإسراف في الإستهلاك، توفيرا لقدر من الصدقات، بل أداء للواجبات إزاء ذي قربى أو جار بالجنب، فضلا عن واجباتنا تجاه أبطال غزة، وضحايا القمع الصيني لإخواننا الإيغور، الذين يجب الضغط الإقتصادي والسياسي على المستبد الصيني لتمكينهم من حقوقهم.
11- ومع كل ذلك، الثابت أن الإسلام وأمته في مسار تاريخي صاعد، تشهد على ذلك المساجد وساحات الفداء وإمتداد الدعوة في العالم، وتغلغلها في كل مستويات مجتمعاتنا، وصناديق الإقتراع إذا توفرت وتعففت .. أمة تغالب في الآن ذاته عوامل الإنحطاط داخلها، من تجزئة وإستبداد وعلمنة وغلو ونهب لأرزاق المستضعفين، وسياسات الهيمنة الدولية خارجها، في ظل ميزان دولي مختل لصالح أعدائها، خضعت له أمم كثيرة.
إن أمة مأمورة أن لا تسجد إلاّ لبارئها، أمة تتمرس في مدرسة الصوم على مغالبة الجوع والعطش والإغراء، لا يسعها إلا أن تقاوم فتصمد، وتصبر وتوالي البذل والفداء، فتنزع إنتصارا هنا وآخر هناك، على أكثر من ساحة: ساحة الفكر والثقافة والدعوة، أو ساحة المقاومة، أو ساحة السياسة، متعاونة مع كل قوى المقاومة والتحرر بمختلف تياراتها داخل الأمة وخارجها.
بينما مذاهب العلمنة الإستئصالية، وأنظمة الطغيان المحلي والدولي، تتعمق أزماتها، في وضع إنكماش فكري، وإفلاس روحي وإنساني، بما يجعل مسألة تحقق وعد الله سبحانه ورسوله للمستضعفين من نصر مبين وظهور لهذا الدين ومقاصده التحررية على الدين كله وعلى الظلم كله، مسألة وقت.
ورمضان إذا أقبلنا عليه جادين بالله مستعينين، من أعظم الروافع، إذ يأتي محفزا ومحشّدا لقوى المقاومة، قوى الروح، في توجّه خالص إلى الرحمن، مرتفعا بمستوى خلقها وبذلها وتماسك صفوفها .. ساحة تتكثّف فيها روحانية المسلم، فتسرع حركة الزمن صوب موعودات الرحمن "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز" (58/20) فتعرّضوا عباد الله لنفحات الله في موسم العطاء، موسم الخير.
هذا شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النيران .. نسأله تعالى أن يجعلنا من عتقاء رمضان من النيران ومن غضب الديان ومن شرور الطغيان .. شهر ينتهي بإنفتاح بوابات السماء لمن فاز بالجائزة، فصام إيمانا واحتسابا "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان" (2/185).
mederdratoday@gmail.com
هناك تعليق واحد:
مقاربة رائعة
إرسال تعليق