كان الشاي وما يزال جد مستطاب لدى جميع الموريتانيين، ويتم إعداد الشاي الموريتاني عن طريق المزج الدقيق لعناصره المؤلفة من الماء الساخن والشاي الأخضر والسكر، ويخضع الشاي لعملية غلي تدريجية ومتوازنة حسب دورة الإبريق الأولى أو الثانية أو الثالثة، وإذا كان استعمال الشاي اليوم أصبح شائعا بين صفوف مختلف فئات المجتمع الموريتاني، فإنه لم يكن خلال عهد صباي ومراهقتى يستعمل إلا على نطاق ضيق جدا، فهناك أقلية من التجار وكبار الوجهاء التقليديين الذين كان بوسعهم وحدهم شربه عدة مرات فى اليوم، أما الغالبية العظمى من مواطني، فلم يكن بوسعهم أن يوفروه لأنفسهم إلا نادرًا، أي مرة أو مرتين أسبوعيًا، وقلما استطاعوا توفيره مرة فى اليوم.
ولا أحتاج التأكيد على فوائد هذا المشروب بالنسبة لمختلف الفئات الاجتماعية فى بلادنا، فهو غذاء، ودواء، ومنشط، ووسيلة مفضلة لصرف الوقت، الخ… فكل من شربه يرغب فى شُربه مجددا. وكل من لم يشربه – أو شربه قليلا – مثل الأطفال، يود شربه! وأنبه، فى هذا المضمار، إلى أن الأطفال وحتى المراهقين لم يكن لديهم الحق آنذاك فى كأس مستقلة. فإلى غاية ذهابي إلى المدرسة، لم يكن لدي الحق – شأنى فى ذاك شأن الأطفال ممن هم فى سنى ووسطى الاجتماعي - إلا فى سؤر كأس أحد أفراد أسرتى.
كما كان لي الحق فى ورق الشاي المطبوخ ودقيق قوالب السكر عند تكسيرها لإعداد الشاي الذى شربه الكبار لتوهم. وكان بإمكانى أن أضيف إلى أوراق الشاي المطبوخة دقيق السكر وآكلهما مباشرة، أو أن أعد إبريقى من الشاي بصب الماء الساخن فى الإبريق على أوراق الشاي المستخدمة وإضافة دقيق السكر. ولا يكون العصير الناتج عن هذه العملية مجرد ماء ساخن، لكنه لن يصبح كذلك شايًا! وبالفعل، فإن أوراق الشاي قد جادت بكل طعمها ولونها خلال عمليات طبخها الأولى. وبما أن كمية الدقيق كانت فى الغالب قليلة، فإن ما أشربه هو عبارة عن ماء فاتر قليل السكر. ومع ذلك فقد كنت مسرورًا لأننى أعد "شايى"، مثل أخوالى ومثل غيرهم من الكبار. غير أن الصيغة الثانية كانت لها مساوئها المتمثلة فى أن أوراق الشاي التى آكل بعد استخدامها الثاني، أصبحت لا طعم لها لأنها قد غسلت غسلا. وبالمقابل، كانت الأوراق فى الصيغة الأولى جيدة الطبخ ومشبعة بعصير أكثر أباريق الشاي التقليدي حلاوة، وهو الإبريق الثالث والأخير. وخلط هذه الأوراق بدقيق السكر يشكل وجبة لذيذة الطعم ومغذية
وتجدر الإشارة إلى أن الشاي كان ما يزال وقتها شربة خاصة بالرجال من حيث الأساس. وكان بوسع النساء أن يشربنه، لكن ذلك لم يكن أمرا مستحسنا بالنسبة لهن. وكان عليهن بالذات أن لا يتولين إعداده، لأن صناعة الشاي لم تكن تدخل فى عملية الطبخ. ولذا فهي تعتبر عملا خاصا بالرجال، بل تكاد تكون حرفة مقصورة عليهم.
وتخضع صناعة الشاي لقواعد ومراسيم معدة سلفا فى أوساط "كبار الأسر" على الأقل. فمراسيم إعداده فى هذه الأوساط ينبغى أن تحترم ما أمكن قاعدة "الجيمات الثلاثة" المعبرة عن الكلمات الحسانية الثلاث البادئة بحرف الجيم، وهي: الجماعة التى تعنى بأنه من غير اللائق بالمرء تناول الشاي بانفراد. وتعزز الكلمة الثانية هذا المعنى وهي: الجَّـرُّ التى تعنى التباطؤ فى إعداد الشاي وعدم التسرع، وبكلمة واحدة "إطالة أمد اللذة". فكان على الشاي أن يكون أداة قتل الوقت المثلى. وكان ينبغى للجماعة، أو لأعضائها على الأصح، أن يكون بوسعهم أن يتحدثوا بلا كلفة وبهدوء، وأن يناقشوا بلا تعجل أكثر القضايا تنوعا. وفى مثل هذه الحال، فإن الوقت لم يكن من ذهب! أما الكلمة الثالثة البادئة بحرف الجيم فهي: الجمر المتأتى من أخشاب خاصة تحترق ببطء ولا تتحول بسرعة إلى رماد، ويغلى عليها الإبريق ببطء.
ومن البديهي أن شايًا معدا وفق قواعد "الجيمات الثلاثة"، ليس فى متناول الجميع. فمعظم المستهلكين لا يستطيعون احترام تلك القواعد ولا يرغبون فى احترامها. وهم يعدون شايهم ويشربونه حسب وسعهم. فهناك "أتاي الغزى" أي الشاي المعد على عجل. والمهم بالنسبة لجمهور المستهلكين هو أن يشربوا الشاي. وكان المناهضون للجر كثرا ويقولون إنهم لا يريدون أن يحرموا أنفسهم منه طويلا أو أن تنتابهم حالة المدمن(آتْـرِ) بين كاسي الشاي الواحد!ومن جهة أخرى، كان الشاي، عندنا، مجالا لإنتاج أدبي ثر، سواء فى شكل فتاوى فقهية أو مساجلات شعرية مشهورة باللغتين الحسانية والعربية الفصحى. فقد جرت المناظرات الفقهية بين فقهاء يرون حرمة استعمال الشاي بوصفه مضيعة للوقت والمال، وآخرين لا يرون مسوغا لذلك التحريم ويرفضون بالتالي حجج خصومهم. ولا أعرف ما إذا كان هناك علماء ما زالوا يقولون بحرمة الشاي، وهناك نوع آخر من المناظرات الشعرية دار، هذه المرة، بين أنصار ثلاثية الكؤوس فى جلسة الشاي ودعاة الرباعية، كما جرت مناظرات أخرى بين الداعين إلى ملء الكؤوس إلى النصف أو إلى ثلاثة أرباعها، وبين من يريدونها مترعة، ويعكس كل ذلك الأهمية التى حظي بها الشاي وما زال يحظى بها فى مجتمعنا. فقد أصبح ظاهرة اجتماعية معقدة ودقيقة، حرية بأن يكرس لها باحث اجتماعي موريتاني دراسة بل وأطروحة
ولا أحتاج التأكيد على فوائد هذا المشروب بالنسبة لمختلف الفئات الاجتماعية فى بلادنا، فهو غذاء، ودواء، ومنشط، ووسيلة مفضلة لصرف الوقت، الخ… فكل من شربه يرغب فى شُربه مجددا. وكل من لم يشربه – أو شربه قليلا – مثل الأطفال، يود شربه! وأنبه، فى هذا المضمار، إلى أن الأطفال وحتى المراهقين لم يكن لديهم الحق آنذاك فى كأس مستقلة. فإلى غاية ذهابي إلى المدرسة، لم يكن لدي الحق – شأنى فى ذاك شأن الأطفال ممن هم فى سنى ووسطى الاجتماعي - إلا فى سؤر كأس أحد أفراد أسرتى.
كما كان لي الحق فى ورق الشاي المطبوخ ودقيق قوالب السكر عند تكسيرها لإعداد الشاي الذى شربه الكبار لتوهم. وكان بإمكانى أن أضيف إلى أوراق الشاي المطبوخة دقيق السكر وآكلهما مباشرة، أو أن أعد إبريقى من الشاي بصب الماء الساخن فى الإبريق على أوراق الشاي المستخدمة وإضافة دقيق السكر. ولا يكون العصير الناتج عن هذه العملية مجرد ماء ساخن، لكنه لن يصبح كذلك شايًا! وبالفعل، فإن أوراق الشاي قد جادت بكل طعمها ولونها خلال عمليات طبخها الأولى. وبما أن كمية الدقيق كانت فى الغالب قليلة، فإن ما أشربه هو عبارة عن ماء فاتر قليل السكر. ومع ذلك فقد كنت مسرورًا لأننى أعد "شايى"، مثل أخوالى ومثل غيرهم من الكبار. غير أن الصيغة الثانية كانت لها مساوئها المتمثلة فى أن أوراق الشاي التى آكل بعد استخدامها الثاني، أصبحت لا طعم لها لأنها قد غسلت غسلا. وبالمقابل، كانت الأوراق فى الصيغة الأولى جيدة الطبخ ومشبعة بعصير أكثر أباريق الشاي التقليدي حلاوة، وهو الإبريق الثالث والأخير. وخلط هذه الأوراق بدقيق السكر يشكل وجبة لذيذة الطعم ومغذية
وتجدر الإشارة إلى أن الشاي كان ما يزال وقتها شربة خاصة بالرجال من حيث الأساس. وكان بوسع النساء أن يشربنه، لكن ذلك لم يكن أمرا مستحسنا بالنسبة لهن. وكان عليهن بالذات أن لا يتولين إعداده، لأن صناعة الشاي لم تكن تدخل فى عملية الطبخ. ولذا فهي تعتبر عملا خاصا بالرجال، بل تكاد تكون حرفة مقصورة عليهم.
وتخضع صناعة الشاي لقواعد ومراسيم معدة سلفا فى أوساط "كبار الأسر" على الأقل. فمراسيم إعداده فى هذه الأوساط ينبغى أن تحترم ما أمكن قاعدة "الجيمات الثلاثة" المعبرة عن الكلمات الحسانية الثلاث البادئة بحرف الجيم، وهي: الجماعة التى تعنى بأنه من غير اللائق بالمرء تناول الشاي بانفراد. وتعزز الكلمة الثانية هذا المعنى وهي: الجَّـرُّ التى تعنى التباطؤ فى إعداد الشاي وعدم التسرع، وبكلمة واحدة "إطالة أمد اللذة". فكان على الشاي أن يكون أداة قتل الوقت المثلى. وكان ينبغى للجماعة، أو لأعضائها على الأصح، أن يكون بوسعهم أن يتحدثوا بلا كلفة وبهدوء، وأن يناقشوا بلا تعجل أكثر القضايا تنوعا. وفى مثل هذه الحال، فإن الوقت لم يكن من ذهب! أما الكلمة الثالثة البادئة بحرف الجيم فهي: الجمر المتأتى من أخشاب خاصة تحترق ببطء ولا تتحول بسرعة إلى رماد، ويغلى عليها الإبريق ببطء.
ومن البديهي أن شايًا معدا وفق قواعد "الجيمات الثلاثة"، ليس فى متناول الجميع. فمعظم المستهلكين لا يستطيعون احترام تلك القواعد ولا يرغبون فى احترامها. وهم يعدون شايهم ويشربونه حسب وسعهم. فهناك "أتاي الغزى" أي الشاي المعد على عجل. والمهم بالنسبة لجمهور المستهلكين هو أن يشربوا الشاي. وكان المناهضون للجر كثرا ويقولون إنهم لا يريدون أن يحرموا أنفسهم منه طويلا أو أن تنتابهم حالة المدمن(آتْـرِ) بين كاسي الشاي الواحد!ومن جهة أخرى، كان الشاي، عندنا، مجالا لإنتاج أدبي ثر، سواء فى شكل فتاوى فقهية أو مساجلات شعرية مشهورة باللغتين الحسانية والعربية الفصحى. فقد جرت المناظرات الفقهية بين فقهاء يرون حرمة استعمال الشاي بوصفه مضيعة للوقت والمال، وآخرين لا يرون مسوغا لذلك التحريم ويرفضون بالتالي حجج خصومهم. ولا أعرف ما إذا كان هناك علماء ما زالوا يقولون بحرمة الشاي، وهناك نوع آخر من المناظرات الشعرية دار، هذه المرة، بين أنصار ثلاثية الكؤوس فى جلسة الشاي ودعاة الرباعية، كما جرت مناظرات أخرى بين الداعين إلى ملء الكؤوس إلى النصف أو إلى ثلاثة أرباعها، وبين من يريدونها مترعة، ويعكس كل ذلك الأهمية التى حظي بها الشاي وما زال يحظى بها فى مجتمعنا. فقد أصبح ظاهرة اجتماعية معقدة ودقيقة، حرية بأن يكرس لها باحث اجتماعي موريتاني دراسة بل وأطروحة
المختار ولد دادّاه
mederdratoday@gmail.com
هناك 5 تعليقات:
تناول أدبي رائع، لموضوع روتيني يومي ..
تحية لمؤسس الدولة
وتقدير لمختارات المذرذرة اليوم المبدعة ..
النعناع إمنين .. ؟
يقول احد ظرفاء اكيدي في الثلاثينات من القرن الماضي وهويصف تعلقه بالشاي بعد ان اكتشف نفاد الشاي
ثلاثة في الحي لاتباع
لفقدها مني يضيق الباع
السكر والمفتول والنعنعاع
ويعني بالمفتول الشاي
اتاي اخبارو ماتطوال ** فيها لكلام ولايعال
فيها لكلام ولاينكال * * كون انو مسلة حسينة
يشرح لخلاك على تعدال ** اهلو وعليه السكينة
وهذي بينة مايوسال ** واللي وساها بينة
مسلة تعدل فسطنبول ** وفمكة والمدينة
ومصر ماعندك كون اتكول ** انها وجبت واللى زينة
رحمة والغفران لأب الأمة!
لعليات اليوم، عادو ألا هوماتي كاع اللي إتيّو (...)
إرسال تعليق