الاثنين، 27 يوليو 2009

رسالة للرئيس القادم
سيرة رئيس سابق (2)

يقول محمد بن كعب القرظي، لما أستخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله، بعث إلي وأنا بالمدينة، فقدمت عليه، فلما دخلت، جعلت أنظر إليه نظرا لا أصرف بصري عنه متعجبا، فقال: يا ابن كعب، إنك لتنظر إلي نظرا ما كنت تنظره، فقلت: متعجبا ..، قال: ما أعجبك ؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أعجبني ما حال من لونك، ونحل من جسمك، ونفى من شعرك. رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد

وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل الخلافة من أعظم الأمويين ترفا، وكانت رائحة عطره تفوح عبر الطرقات التي يمر بها، وكان يمشى مشية يقلدها الجواري لحسنها تسمى "العمرية"، وكان أحسن الناس لباسا، حتى قال: لقد خفت أن يعجز ما قسم الله لي عن كسوتي، وما لبست ثوبا قط فرآه الناس إلا خيل إلي أنه قد بلى.
كان عمر كذلك، ولكنه بعد الخلافة إنقلب شخصا آخر، مختلفا عن الأول تمام الاختلاف.
الرجل الذي كان يستخشن حلة بألف دينار، تصبح ملابسه كلها بإثنى عشر درهما، ويصلي الجمعة في قميص مرقوع الجيب، ويجلس في إنتظار قميصه ليجف، وتصبح نفقته اليومية درهمين، ويدخل على إمرأته فاطمة بنت عبد الملك، فيقول لها: أعندك درهم أشترى به عنبا، فتجيبه، أنت يا أمير المؤمنين لا تقدر على درهم تشترى به عنبا ؟! فيقول لها: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدا في نار جهنم.
وتجيء إليه عمته، فتجده يتعشى خبزا وملحا وزيتا، فقالت يا أمير المؤمنين لو إتخذت لك طعاما ألين من هذا، فيقول: ليس عندي يا عمة ولوكان عندي لفعلت.
ليس عند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي كان يحكم الأرض الإسلامية الممتدة من الصين إلى بحر الظلمات درهم، لأنه باع جميع ممتلكاته، فبلغ ثمنها ثلاثة وعشرين ألف دينار، فردها إلى بيت مال المسلمين، ثم إكتفى بدرهمين يأخذهما يوميا من بيت المال، وليس من الممكن توفير أطايب الطعام بدرهمين مهما رخصت الأسعار.
كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو إبن الأسرة الحاكمة، يدرك جيدا من أين جاءت تلك الأموال التي يتنعم بها المحظوظون المقربون من الأمراء .. وكيف تفتحت أمامهم الأبواب وإنداحت العقبات، ليثروا بسرعة صاروخية على حساب عامة الناس الذين لا جاه لهم ولا سلطان، ولا هالة ولا هيلمان، كان عمر يدرك ذلك جيدا ولم يكن مستعدا لإستمرار الأوضاع المنحرفة في ظل حكمه، لأنه مسؤول عن كل ذلك عند الله تبارك وتعالى.
فكان لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها، بأخذ المال من حقه وصرفه في حقه، وإعادة الأموال المسلوبة من خزائن الدولة مهما كلف ذلــك من ثمـــــن.
وكان لا بد أن يبدأ عمر بن عبد العزيز بنفسه، فليس أسخف من أن يدعو الحاكم إلى التعفف عن المال العام، وإلى سياسة التقشف والأمانة والنزاهة والعدل والمساواة، وهو يعيش مع حاشيته والمقربين منه حياة مترفة، تنفق عليها الملايين من ميزانية الدولة، بينما لا تكاد تتوفر للرعية ضروريات الحيـــاة.
بدأ عمر بنفسه فباع ممتلكاته وردها إلى بيت مال المسلمين، وقال لزوجته إما أن تردى حليك إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وهو في بيت واحد.
فتقول: لا بل أنا أختارك عليه وعلى أضعافه، ولما ولي أخوها يزيد بن عبد الملك، قال لها: إن شئت رددته إليك فتقول: لا والله لا أطيب به نفسا في حياته، وأرجع فيه بعد موته.
ثم إتجه عمر إلى أقربائه من بنى أمية، وكانت لهم أموال طائلة جمعوها بمختلف الوسائل، وظلت تنمو مع مرور الزمن، فأمر برد كل ممتلكاتهم التي يتصور أنها جمعت بطرق غير شرعية، وقد شق ذلك على بني أمية، ففاوضوه في ذلك، وقالوا له على لسان مندوبهم: إستأنف العمل برأيك فيما تحت يدك، وخل بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم وما لهم، فيقول له عمر: أرأيت أن أتيت بسجلين (وثيقتين) أحدهما من معاوية والآخر من عبد الملك، فبأيهما آخذ فأجابه الرجل بالأقدم، فقال عمر بن عبد العزيز: فإني وجدت كتاب الله الأقدم، فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني.
ولم يكن عمر رضي الله عنه في هذا العمل الذي قام به مبتدعا، وإنما كان متبعا .. روى البخاري عن أبى حميد الساعدي قال: إستعمل النبي رجلا من بنى أسد يقال له إبن اللتبية على صدقة، فلما قدم، قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول هذا لك وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه ألا هل بلغت؟ ثلاثا».
وعلى هذا سار فقهاؤنا رحمهم الله، فقد نقل الحطاب في القضاء عن إبن حبيب المالكي أنه قال: كلما أفاده الوالي من مال سوى رزقه (راتبه) في عمله أو قاض في قضائه أو متول أمر المسلمين فللإمام أخذه للمسلمين، وكان عمر إذا ولى أحدا أحصى ماله لينظر ما يزيد ولذا شاطر العمال أموالهم حيث كثرت وعجز عن تمييز ما زادوه بعد الولاية.
قال القرافي في الذخيرة: التشطير حسن، لأن التجارة لا بد أن ينميها (جاه العمل) فيصير جاه المسلمين كالعامل، والقاضي وغيره رب المال، فأعطى العامل النصف عدلاً بين الفريقين.
ولو طبقت أجهزة الرقابة سنة العمرين لأفلحت.
إتجه عمر إلى عماله وموظفيه لينهجوا نهجه في العدل، وليبتعدوا عن إستغلال مناصبهم، وليحافظوا على أموال المسلمين فلا يبذرونها تبذيرا، فيكتب إلى واليه على المدينـة::
أما بعد: فقد قرأت كتابك إلى سليمان، تذكر أنه قد كان يجري على من كان قبلك من أمراء المدينة من القراطيس لحوائج المسلمين كذا وكذا فإبتليت بجوابك فيه، فإذا جاءك كتابي هذا فأرقَّ القلمَ وإجمع الخط وإجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم والملام عليك".
ويكتب إليه وقد طلب منه مصروفات إضاءة خارجية "لعمري لقد عهدتك يا ابن أم حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة من غير مصباح، ولعمري أنت يومئذ خير منك اليوم ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك".

الشيخ محمد الأمين مزيد

mederdratoday@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق