الاثنين، 4 مايو 2009

إنتصار القبيلة
وإنهزام الدولة والأيديولوجيا

سماؤنا ملبدة –هذه الأيام- بغيوم كثيفة، وسط جو سياسي متوتر غاية؛ حيث أماطت القبيلة اللثام، وكشّرت عن فمها الأدرد الأبخر، ووجهها القبيح.

القبيلة سبق وأن أثخنت أيام الحكم العسكري -المباشر غير المزركش- وقُلّمت أظافرها إلى حد كبير، فتعسّف العسكريون بإسم الدولة، وكدنا نحسّها ونشعر بها ونخاف عذابها الأليم غير المأمون، حيث لا قبيلة تحمي، حتى أن "معاوية ما قبل 89" كان يندد جهارا ب"لقبيلات" ثم أطل من جديد الثالوث المشرع للقبيلة، والمؤصّل لثقافتها -القصر- رجال المال- شيوخ العشائر والطرق والمحاظر- ليتلقف المثقفون القبيلة ويذللون بها كل صعب، واضعينها محل الدولة؛ فهي توظف وتؤمّن نهبة المال العام ومرتكبي جرائم التعذيب وجميع الرذائل حتى تلك التي ينص على حرمتها مشهور وراجح "مذهب مالك"، فأصبحت سرابيل تقي من عاديات "العدالة".
فليس غريبا في ظروفنا الراهنة أن نجد أستاذا في الجامعة يندب حظ قبيلته العاثر بسبب حيف الوظائف الممنوحة لها؛ كل ذلك أمام طلابه، وأن نجد إماما أو خطيبا يشرّع للقبيلة مستشهدا بالآية الكريمة -... وقبائل لتعارفوا- مفرغا إياها من مضمونها المعرفي، وسياقها الخبري، وأن نجد مثقفا ذربا علّ من نخب فكر ماركس، ونهل من معين نظريات آدم اسميث، وحفظ طرر ميشل عفلق، وتعليقات حسنين هيكل، وشروح شروح شطحات القذافي، و"إستظهارات" لينين وماو، ومع ذلك فهو أكثر قبلية ودفاعا عن ذمارها والتغني بأمجادها –إن كان لها أمجاد- من عمْرو بن كلثوم التغلبي، والأحنف بن قيس التميمي.
أي مثقف منا الآن لا يحفظ مقطعا من "اتهيدين" العشيرة الحقيقي -اتهيدين قبائل العرب-، أو المزيف -اتهيدين قبائل الزوايا- الذي أصبح موضة، ينفق المحظوظون من "الغنيمة" على تشجيعه وإنتاجه من المال العام الذي تولوه بإسم القبيلة ومن أجل إكرامها .. يجب التعريف بها وكتابة تاريخها والتغني بمجد موهوم بإسمها!.

أي من مثقفي العشائر يقبل بألا "اتهيدين" لقبيلته ويستطيع أن يقول إن "اتهيدين" خاص بذرية "مغفر" دون غيرهم من المستعربين سواء بالثقافة أو ب"الدم" وقليل ماهم.

وأن العرب من بني حسان لم يكونوا ينفقون على المادحين من المال العام، بل من أموالهم الخاصة لأن جبلّتهم الكرم.

جو هذه السنة أصبحنا فيه أكثر صراحة في تمجيدنا للقبيلة من ذي قبل؛ فما كان كلام معارضة أصبح دعاية إنتخابية تمارسها المعارضة والحكومة على حد سواء، شرّعه الساسة المتنافسون على كرسي قيادة البلد والصحافة -قائدة الرأي كما ينبغي- في صمت لبقية مكونات المجتمع المدني.

وقديما قال "الفقه المالكي!" إن الصمت قبول إستئناسا بأثر "قبولها صمتها".

فلا تكاد تقرأ منشورا، إلا وطالعتك العبارات السخيفة والمقززة والمتخلفة .. مجموعة بني فلان في الولاية كذا تعلن مساندتها للمرشح فلان! والمفكر فلان أو الأستاذ الجامعي فلان فوضته القبيلة كي يكون مفاوضها والمتحدث باسمها!

وأن فلانا هو جامع تبرعاتها، دون ذكر لمن سيتولى تقسيم الغنيمة التي هي مهماز كل شيء.
إنتصار القبيلة علينا في آخر المطاف دليل على إفلاس النخب السياسية وعجز الفكر الأيديولوجي عن ترسيخ ثقافة الدولة.

أين -مثلا- حركة الحر المتشدقة بمنافحتها عن قضايا العبيد المضطهدين والفقراء المنبوذين؟

لمَ لا تقول إن القبيلة عودة إلى نظام كان سبب الوضع المزري الذي تعيش فيه الشرائح التي تدعي الكفاح من أجل إنصافها؟

وأين الماركسيون الأمميون بكل مدارسهم .. أعداء الشوفينية القومية ودعاة الأممية؟

أين المنجل والألوان المتشابكة التي يرمزون بها إلى فكرة اللاشوفينية والتعاضد والمساواة والإنصهار؟

لمَ سكوتهم، بل دخولهم في تحالفات توقع بيانات بإسم ليس إسم القومية الضيقة فقط، بل القبيلة الصغيرة جدا؟

وأين القوميون المخلصون، دعاة توحيد كل الأقوام التي تكتب من اليمين إلى اليسار؟

أيقبلون الإنضمام إلى ألوية حروب بني ضمضم وبني جشم الانتخابية؟

بل أين دعاة توحيد أمة "إذا إشتكى منها عضو" من "جاوا إلى بانجول، ومن تنجانيقا إلى مروا"؟

وأين هم الليبراليون المنافحون عن العولمة، والقرية الكونية الواحدة، والإندماج بين الثقافات؟

أين هم من ثقافة القبيلة الصغيرة هذه الأيام؟ لمَ يوقّع مشاهيرهم البيانات بإسمها ؟

الكل إنهار أمام القبيلة وبدا كذوبا؛ فلا مدافعين هم عن العبودية، بل هم قبليون يوظفون مسألة العبيد.

ولا هم ماركسيون، بل هم قبليون مهمشون.

ولا قوميون، بل هم محبطون يبحثون عن الشهرة.

ولا إسلاميون، وإنما هم متمذهبون عشائريون، وليس هناك مثقفون ليبراليون هذه الأيام، وإنما جشعون يجمعون بإسم القبيلة ويدافعون عن مصالحهم من خلالها للوصول إلى الأهم، إلى "الغنيمة".

إنتخابات هذا العام، إنتخابات القبائل بإمتياز؛ فقد فازوا على دعاة الدولة الذين خسروا الرهان، وأصبحوا تائهين، رغم أن حفنة منهم ستبقى تحلم حلما كبيرا إسمه "الدولة في ظل سيطرة القبيلة".
المضحك حقا أن العرب قديما إقتتلوا من أجل أن تبقى قريش في الحكم كي يؤسسوا دولة.

أما نحن فإن كل المترشحين يعتقدون جازمين أنهم من "قريش"، وكل القبائل من قريش، وحتى الزنوج أصبحوا من قريش حسب "الأيركيولوجي" ولد احمين أعمر.
في دولة القبائل كل الناس من قريش، وقريش تنافس قريشا من أجل تقويض الدولة والعودة إلى القبيلة، أما السكان الآخرون-ذوو الأصول الزناتية والبافورية والماندينغية والطوارقية- فإنهم عندنا من ذؤابة هاشم وخياشيم مضر الحمراء.
ليت أحدهم وقّع بيانا بإسم مملكة غانا أو حاضرة أوداغوست أو مملكة التكرور أو كفر البافور؛

وقال لنا : "أنا مواطن من كل هذه الدول والحضارات والأعراق، ... وأساند مرشحهم الموحد الذي أحسه، وأفتخر بالإنتماء إليهم جميعا، وأرجو أن يفوز مرشحهم المسمى بالماندينغية: غانا، وبالآزيرية: آوكار، وبالبافورية: آزوكي، وبالولفية: والو والو، وبالتكرورية: فوتا، وبالصنهاجية: المرابطون، وبالعربية: دولة المغافرة.. وبكل هذه اللهجات: موريتانيا".

حتى تكون دعوته تعني ضمنيا مفهوم دولة الكل، عندئذ لاستبشرنا بأن أركيولوجيا -من فصيل غير فصيل ولد احمين أعمر .. أوسع ثقافة وأكثر علمية وأقل تأدلجا- بحث لنا عن دولة، لا قبلية ولا قومية، رغم أنه لا أحد منا يحب الإنتماء إليها، أو أن يعتبر نفسه إمتدادا لها في هذا الظرف على الأقل.

سيد محمد ولد جعفر

mederdratoday@gmail.com

هناك تعليقان (2):