ومهمة شاقة
متى يفهم هذا المحنط على لغة العنف, أن شعبنا (الضال أبدا داخل تجاويف نقطة استفهام كبيرة) يستحق ما هو أفضل من مسلسل رعب يلعب فيه دور الغول الهائج ؟..
لقد عانى شعبنا المسكين من ويلات عدم الاستقرار السياسي منذ سنوات وسنوات: عاش الانتفاضات الجامحة، والمسيرات الصاخبة، والمظاهرات الغاضبة، والإعدامات المعلنة، والإغتيالات السرية، والاعتقالات التعسفية، والأحداث العرقية، والتعذيب، والصعق، والثبور، والعويل.
كل ذلك من أجل كينونة تبدو كالعنقاء في ظل جبروت من يـُـراد لهم أن يكونوا حماة دساتيرنا، رعاة حرياتنا، الذابين عن سيادتنا. وكم هو غريب في عالم مفتوح أن لا يأخذ هؤلاء أي درس من التجارب المرة؛ فالتنمية بدون استثمارات مستحيلة، والاستثمارات تخاف عدم الاستقرار منذ الأزل، والاستقرار شرطه الأساسي عقد توافقي سياسي واجتماعي مقدس، يكون على الظالم سيفا، وللمظلوم منجاة، وفي المخاصمات حكما، وفي الأزمات مرجعية .. إنه الدستور: تلك الكلمة السواء.
وغريب أيضا أن ضراغمنا البواسل لم يفهموا أن الانقلاب العسكري الأول جرّ إلى انقلاب عسكري، أدى بدوره إلى انقلاب عسكري، انجذب إليه انقلاب عسكري آخر، كان مدعاة لانقلاب تال، تلاه انقلاب تابع، تبعه انقلاب جارف، فانقلاب ملثم بديمقراطية عرجاء.
وبين الانقلاب والانقلاب ثمة عشرات الانقلابات الفاشلة، والصامتة، والجنينية، والخادعة، والكاذبة. دوامة لا تنتهي إلا لتبدأ, وعلى فتات فوضويتها تولد وتتكاثر ديدان خروقات حقوق الإنسان، وشروخ اللحمة الثقافية العرقية، وعراقيل التسيب، ومتاريس الرشوة، ومشانق القبلية.
وفي وضع كهذا لا يمكن للقضاء أن يكون الرحمة المنشودة، بل يظل جمرتنا الخبيثة، لأنه أداة خيزران في يد حكام ظالمين مسكونين بجنون العظمة، وهواية الاستمتاع بمحاباة القوالب الفئوية التقليدية الجامدة.
وهكذا يستحيل التقدم خطوة واحدة، ويظل المجتمع نسخة طبقا الأصل من ماضيه السيئ: عبيد يساقون بعصي تراكمات من ثقافة الإذلال والتأويلات النفعية لأصول دين سمح بطبيعته.. سلطة لا تنقاد إلا للأقوى .. حرية تحدد الثكنة حدودها وترسم مخافر الشرطة طريقها .. تسيير محكوم بنكتة: "ما سقط لي وما لم يسقط للشعب".
ورغم ذلك، وبالرغم من كل ما استجد من شروط وإكراهات، يأتي جنرال (عالي الجودة وخال من الدهون) ليستنسخ -بشكل مضحك- نفس النظام الدكتاتوري الملفوف في جلباب ديمقراطي رث، كمن نسي أنه لولا سيئات ذلك النظام لما وجد هو أصلا، وبالتالي فاستنساخه له سيخلق معه نفس الشروط التي ستؤدي إلى سقوطه هو، فيبرز للوجود "عزيز" آخر وربما "زليخة" أخرى، إلى آخر الأسطوانة المملة.
إننا نعيش وضعا غير مريح البتة؛ لأن كتابنا و"جبهتنا" واتحادنا الإفريقي, لا يفهمون أن من يحاول أن يقنع جنرالا (من طراز ابوينغ) كمن يضرب صخرة لتحضر درسا من علم النفس, ورجائي أن أكون مخطئا، عسى المستنيرين لا يفقدون الأمل في إنقاذ السفينة, لكن غرور الرجل بملكاته العقلية، وخضوعه السريع لمخدر التصفيق، يجعل المهمة صعبة وشاقة.
محمد فال ولد سيدي ميله
mederdratoday@gmail.com
مقال في المستوى ..
ردحذف